حكمة الصرصار

Posté par محمد البوعيادي le 14 décembre 2018

                                                                              gregor-samsa-wannart-900x580

قرابة الفجر ولم أنم بعد، وبجانبي بقايا نبيذ وسجائر مطفأة في وعاء بلاستيكي تنبعث منه رائحة احتراق خانقة، فتحت باب المنزل على مصراعيه وجلست أراقب سكون الليل في قرية ميتة، لا يظهر لي من بعيد سوى  أضواء منازل متواضعة متفرقة وأشجار بلوط اغتالها الظلام تبدو مثل فواصل ونقط ترقيم فوق الجبل الصغير، وفي الداخل تنبعث موسيقى قديمة سكرانة، لم يكن لدي في الليل أي رفيق، فالجميع نائمون أو مستغرقون في أجسادهم العرقى. فرغت قنينتي لكن رأسي امتلأ.

لم يكن أمامي وأنا جالس على عتبة الباب سوى مشهد القمر منتصفا في الغيم، حيث تبدو السماء كئيبة، وفي مشهد مهيب من السحب الرمادية التي تتشكل على هيئة حيوانات أسطورية، قفز صرصور اتجاه قدمي ووقف. كان يبدو مثل تنين ممسوخ، ربما كان يفترس الذين يشعرون بالملل في زمن سحيق.

في لفافة المكسرات، كنت قرأت قبل سنوات طويلة أن الصراصير نجت من الإشعاع النووي في هيروشيما ونكازاكي وتشيرنوبيل أيضا، لكنها لم تنج من فضول البشر.

ومن شدة الدعس والمطاردة خلف الصناديق وتحت الأفرشة وفي العليات، تعلم الصرصار بعض الدروس، وبإمكانه أن يعلمها للبشر كي يصمدوا أمام الخطر المحدق بهم، خطرهم على أنفسهم.

الدرس الأول، هو محاولة تجنب أذية من لا يخافون ولا يملكون شيئا.

 لذلك يهاجم الصرصار النساء دائما، فهن الكائنات الوحيدة التي تخاف من إفساد تصفيفة شعر أو عطر أو كسر ظفر، الصراصير تحب إزعاج الكائنات البلاستيكية المنافقة فقط، لكنها تخاف من الكائنات العفنة (الرجال)، الرجال دائما عفنون، حتى أولئك المتأنقين من المراكز الحضرية، سرعان ما يعودون لحالة العفن حين ينتهي اللقاء  وتحزم المرأة حقيبتها لتعود أدراجها. ستجد قشور الليمون والملابس الداخلية المتسخة، قناني النبيذ الفارغة وأعقاب السجائر في كل مكان إذا فاجأت رجلا بزيارة دون سابق إنذار، وطبعا ستجد الصراصير، فهي الصديقة الأزلية للرجال، غير أن العفن قد يكون داخليا، من منا ليس متعفنا من الداخل في زمن الصراصير؟ لا يستطيع أحد ادعاء العكس، إلا أن كان قد تخمّر من الداخل فعلا. يجب تجنب من ليس لديهم شيئا ليخسروه، في الواقع يتجنب الصرصار الجميع، من الجيد تجنب الجميع، حيث يفوز الكل، إن لم يفوزوا بشيء مادي، لا يخسرون الهدوء على الأقل.

الدرس الثاني، لا تظهر للعلن إلا في حالة اضطرار.

تظهر باقي الحشرات دوما في اختيال، يمكن للذباب أن يزعجك طوال اليوم، وبالرغم من ذلك لم يشتهر كحشرة كريهة بقدر ما اشتهر الصرصار، بالرغم من كونه حشرة خجولة. أفضل أن يكون المرء صرصارا على هيئة غريغور سامسا على أن يكون ذبابة اجتماعية متأنقة تحط على جسد الناس في كل وقت دون سابق إنذار، ما الذي فعله سامسا حين اكتشف أنه صرصار عملاق؟ لم يقدر على فتح الباب، ظل مختبئا لمدة طويلة جدا، تلك حكمة يمكن فعلا أن تؤدي إلى عدد قليل جدا من الأضرار الاجتماعية في مجتمع من الذباب.

لا يوجد درس ثالث محتمل سوى الفرار.

على المرء أن يفر دائما، أن يفر من كل شيء، من الأشياء التي لا يحبها ومن الأشياء التي يحبها، من الأشياء المخيفة وأكثر من الأشياء الباعثة على الاطمئنان، لأن هناك غلافا زهريا حول قنبلة. هناك دائما طلاء براق خلف الأشياء التي تقتل الإنسان، وغالبا ما تبدأ بشكل مفرح، مثل الأصدقاء والربح والحب والعائلة والاندماج في شيء معين، مثل حزب أو نقابة أو جمعية من المعاقين  ذهنيا، على المرء ألا يخجل من عبارة : لقد فر كالصرصار. طبعا لقد فر كي لا يتم سحقه بحداء براق. يتوقعون منك دائما أن تتحمل مسؤولية زائفة ألصقوها بك زورا، يحب الناس أن يكتبوا المسؤوليات على الأوراق ويلصقونها في ظهور بعضهم البعض، لكن الصراصير تهرب فقط، تختبئ ثم إذا اكتشفت تفر، أترى خجل كافكا من جعل شخصيته رمزا للسكينة والفرار؟ ذلك القلق الوجودي الهائل، قلق الحضارة، صورة الذات المنعزلة، لم يكن من الممكن أن يعبر عنها في صورة كلب وفي ودود، المجتمع مليء بالكلاب الودودة، التي يمكن أن تفعل حتى الأشياء التي لم تطلب منها، لكن الصرصار يفر فقط، إنه حشرة قلقة وجودية لعينة فهمت كل شيء تقريبا.

حين اشتد شعاع الشمس الذي تسلل بين الغيم، تأكدت من أنه ليس سوى صرصار وحيد، لم يهاجم ولم يتودد، ولم يفعل أي شيء، ظل يحرك شاربيه الطويلين مثل جندي من الانكشارية، لقد كان مثلي وحيدا، تأكدت على الأقل أن اسمه ليس غريغور، حين سألته إن كان اسمه غريغور هز رأسه بالنفي، تمكنت من تنحية نظرية أن يكون إنسانا متحولا. لكن بالرغم من ذلك بدا حزينا ومنعزلا، وقال لي قبل أن ينصرف: لماذا لم تطرح السؤال بصيغة معاكسة؟.  لعل جزءا كبيرا من البشر تحول بشكل معاكس، من صرصار إلى إنسان. « التحول: الجزء الثاني »، الجزء الذي لم يكتبه كافكا، وهو حين تحول القليل من البشر، المختارين جينيا ليكونوا هاربين، إلى صراصير.

 

هناك قطعا حكمة في خلق الله للصراصير، حكمة أبلغ من إعمار المجاري المائية السفلية والتسبيح باسمه عبر تحريك الشاربين المرهفين، وهي قطعا حكمة العبث المطلق، حيث لا شيء يكون لسبب، الصرصار هو التعبير المطلق والنهائي على أن الأمر بجله لا يعدو أن يكون مجرد مهزلة مضحكة، وإلا فما الحكمة من وجود حشرة مرهفة الإحساس مكروهة من جميع الحشرات الأخرى؟ 

Publié dans تأملات | Pas de Commentaire »

Fight club: العنف والعنف المُضاد

Posté par محمد البوعيادي le 12 septembre 2018

                                            30180439_1775168345838933_1627561218_n   

ما الذي يميز الشريط السينمائي « نادي القتال » لدرجة صار فيها واحدا من أناجيل سينما الشباب المتمردين على روح العصر، تماما مثل:

 Natural born Killers، The big Lebowski وTaxi driver،V for Vandetta، The machinist،Pulp fiction، …إلخ.

 أي تلك الأفلام السينمائية التي تجمع بين الهم الفني والهم التجاري، أي سينما « متوسطة » نوعا ما من الناحية الفنية، لكن غنية موضوعاتيا،  والتي  تخوض أساسا في إشكاليات العنف في الحضارة المعاصرة وتواري الضمير الأخلاقي والمفهوم الإنسي للعيش. ما الذي يجعل هذا الشريط مميزا ليثير مشاهدين من فئة خاصة، يتميزون بالسخط على المسار الذي اتخذته الحياة الاجتماعية؟

في البداية لابد من الإشارة إلى نقطة تبدو أساسية في تلقّي الفيلم، وهي أن المشاهدين المتخصصين وغير المتخصصين يتحدثون عن الفيلم دون ذكر مُخرجه، في حين في التذوق السينمائي العالِم، من المهم جدا استبطان أسلوب المخرج وطريقته السينمائية في شرائطه. يُطرح شريط « نادي القتال » دوما من زوايا مختلفة عن الاهتمام بالشكل الفنّي: الحُكبة والأداء التمثيلي والرسالة الوجودية والاجتماعية التي يحملها. وخارج هذه المحاور شخصيا لا يمكنني أن أتصور الفيلم مثيرا للاهتام.

يعود سبب هذا الشعور ربما، لطغيان النص الأدبي في خلفية الشريط، فقوة حبكة رواية « نادي القتال » (تشاك بولانياك) طغت على اختيارات الإخراج، لكونه نصا أدبيا يتسم بالقوة والعنف والاحتفاء بجمالية القُبح والإحباط، فيما يُشبه روايات « وليام بوروث » و »فيليب روث » أو « بول أوستر » إلخ، أي ضمن تيار اللامبالاة والتمرد والاحتفال بجماليات القُبح، الذي رسخته روايات أمريكية وبريطانية، من قبيل « الحارس في حقل الشوفان »، أو « جامع الفراشات » إلخ.

لكن هذا الاستنتاج لا يُفيد بأن الشريط مجرد تأويل للنص، أو تنزيل بصري له، هناك ترجمة لقوة النص، لكن مع إضافات مميزة، يمثلها خصوصا طاقم التمثيل، وبالضبط في التنسيق الممتاز بين إدوارد نورتون وبراد بيت في لعب شخصية واحدة، هي جاك المُصاب بفصام الشخصية وفرادة شخصية « مارلا سينغر » مع إبداع هيلينا كارتر بونهام، ثم –طبعا- التقسيم الخاص لزمن الفيلم، باعتماد تقنية الاسترجاع Flash back، وتداخل المشاهد، حيث لم يخضع التقسيم الزمني للمشاهد لخط كلاسيكي رتيب بقدر ما اعتمد على الذاكرة وتداخل الأزمنة، وهو ما يسبب لبعض المشاهدين تشويشا في الفهم للوهلة الأولى.

يحكي الشريط السينمائي قصة عامل في شركة للتأمين على حوادث السيارات، « جاك »(إدوارد نورتون) الذي يصاب بالفصام،  وذلك بسبب نمط الحياة الاجتماعية المُعاصرة التي تتسم بالكثير من العبودية في العمل والقيود والسطحية الاجتماعية المتمثلة في طغيان ممارسات غير رشيدة، مثل الاستهلاك المُضاعف ونزعة التملك، جاك الذي يخلق شخصية ثانية من ذاته، هي شخصية « تايلر دردن »(براد بيت) صديقه الخيالي (نصفه الفُصامي)، ليتوجه نحو نشر تقليد القتال في الردهات المظلمة أسفل البنايات، حيث يلتف حوله عدد هائل من اليائسين الكارهين لنمط الحياة الاجتماعية ليؤسسوا ناديا خاصا بتفريغ كل شحنات العنف التي يتلقفونها من المجتمع في قتالات متوازنة وعادلة. لكن الأمر لا يتوقف عند ذلك الحد، بل يتحول إلى مشروع كبير تحت عنوان « Mayhem » (يتصادف مع قول المشارقة « ما يهمّ »= لا يهم) لتفجير المؤسسات المالية الكبرى في أمريكا لأجل تحرير الناس من عبودية النظام المالي العالمي ونمط تقسيم العمل المُجحف.

                                                                                 vlcsnap-2018-09-10-15h38m37s950

                                             عنف الحضارة المعاصرة وردة الفعل

يبدأ الشريط السينمائي بعرض شخصية بطل يعاني من ديستوبيا المجتمع، رجل لم ينم لمدة طويلة جدا، يعاني من الأرق المُزمن وغياب المعنى في كل نشاطاته اليومية، لذلك يأخذ الأدوية المخدرة (Xanax) ويدّعي إصابته بأمراض خطيرة ليستطيع الحضور لاجتماعات المواساة التي يعقدها المرضى: مرضى سرطان الخصية، حيث يلتقي بشخصية « بوب » الرجل الذي نمت له أثداء وفقد زوجته وأبناءه بسبب زيادة هرمون الأستروجين في جسده، ثم مرضى السل، وفقر الدم، سرطان الجلد، سرطان الأمعاء، خرفُ المُخ، سرطان الغدد اللمفاوية،  مرض طفيليات الدم …إلخ. وفي اجتماعات المواساة تلك يبكي مع المرضى ليستريح من ضغط العزلة والحياة الميكانيكية التي وجد نفسه متورطا فيها.

يقدم الشريط في هذا المستوى تصويرا كوميديا أسود للحالة التي وصل إليها مفهوم العيش في حضارة السرطان، فالبحث عن السعادة يكاد يظهر بصورة مثيرة للشفقة في ظل الفوضى العارمة التي تغرق فيها المدن الكبرى، دعارة وسرقة ونهب وعنف وجريمة وأمراض صناعية طارئة وتحايل سياسي، لذلك يطور البطل وبشكل غير واع حالة من الفُصام، خصوصا بعد تطفّل امرأة على اجتماعات المرضى، وهي غير مريضة أصلا « مارلا سينغر » (هيلينا بونهام)، حيث حرمته من متعة الغوص في « الكهف » (رمز للراحة والسلام الداخلي عبر الانعزال الواعي عن الخارج) لأنها « كشفته »، فيصبح شخصا غير « متوازن » بالمعنى المتواتر، حيث تنشأ لديه نزعة تدميرية، فيقوم أولا بإحراق منزله والاتجاه لاحتلال منزل قديم مخرب تماما، ثم تتسم شخصيته باللامبالاة والسخرية ورفض الزيف الاجتماعي ثانيا: « كل شيء نسخة عن نسخة عن نسخة » يقول. والأهم من ذلك كله، رفض التملّك وسُعار الاستهلاك، حيث يبدو لنا في إحدى حواراته مع شخصيته المتخيلة « تايلر دردن » يسخر من اهتمام الناس بارتداء ملابس داخلية عليها أسماء أشخاص آخرين لا لشيء إلا لأنهم أغنياء ويملكون علامات تجارية ! فهو يسخر من رغبتنا الجامحة في امتلاك أشياء لا تعود على تجربتنا في الوجود بأي نفع أحيانا، سوى تعليمنا المزيد من الكسل والتفاخر. وينتقد الشريط أيضا البيروقراطية والتراتبية الاجتماعية، حيث نرى الطريقة الهستيرية والذكية التي يضطر فيها البطل لهزم مديره اللئيم والمنضبط جدا، فيقوم بضرب نفسه في مكتب المدير – في مشهد فريد من نوعه – ليرغمه على صرف راتبه دون أن يضطر للعمل وإلا سيتابعه قانونيا.

                                                                            vlcsnap-2018-09-10-16h14m09s403

يريد الفيلم أن يخبرنا أن شخصية العدمي ليست اختيارا ذاتيا، ولكن ردة فعل على ردم الهوية الآدمية في نمط الإنتاج التراتبي الجديد، لذلك فلمقاومة عنف البنيتين الاقتصادية والاجتماعية كان لابد ل »جاك » من تطوير شخصيته لتصبح أكثر عنفا وذكاء وراديكالية، إذ لا يمكن مواجهة الشر بالخير، لكن يمكن مواجهته بشر يفوقه وعنف يفوقه ولامبالاة مُطلقة، كما أن الفيلم ينطلق من فكرة راديكالية سياسيا مفادها أن الأنظمة الفاسدة لا يمكن إصلاحها، لذلك يجب العمل على تدميرها بالكامل، والأمر نفسه طبعا يخص العلاقات الاجتماعية، حيث يتجاوز جاك كل « الخطوط الحمراء ».

من هنا جاء ارتكاز الفيلم على مفهوم العنف المُضاد، فالعدمية واللامبالاة والنزعة غير الأخلاقوية الوقحة ردة فعل ضرورية على وقاحة المجتمع المعاصر وثقافته التدجينية المريضة، إن ردة الفعل على التدجين – في نادي القتال- هي الرفض الراديكالي.

                                                      تطوير « الإنسان الأعلى »

واحدة من الأفكار التي راودتني لتفسير اهتمام الشباب المتمرد بهذا الشريط السينمائي، هو مطابقته نوعا ما لفكرة « الإنسان الأعلى » عند نيتشه، ف »تايلر دردن » أي الشق الثاني من شخصية جاك، رجل شبيه بما وصفه نيتشه بالإنسان المتفوق، إذ استطاع أن يتخلص من معظم مظاهر الضعف البشري التي نكتسبها بيولوجيا أحيانا واجتماعيا أحيانا أخرى، من قبيل:

-         التعايش مع الخوف والألم:

 يتجلي ذلك في تجربة قيادة السيارة دون تحكم في المقود لتنقلب بجاك و »تايلر » وأفراد النادي، حيث يعلم تايلر جاك (نفسه) كيف يتوقف عن الخوف من الموت. كما يظهر هذا التعايش في ضرب جاك لنفسه في مكتب المدير، ثم تعرضه للضرب من قبل صاحب المقهى الذي أسسوا أسفله نادي القتال، حيث يقدم  جاك وجهه لصاحب المبنى ليضربه بقوة ثم يرتمي عليه ويطليه بالدم وهو يضحك بهستيريا ليحصل على حق البقاء في المبنى. كما يتجلى في تجربة حرق اليد بسماد كيميائي، حيث نرى جاك يتخيل شخصيته الثانية تحرق يده وهي ممسكة بها  بقوة، وتطلب منه أن يتوقف عن الصراخ والمقاومة ويتقبل الألم، وهي تجربة سيعيدها مع كل فرد من خلية الأتباع التي أسسها لتنفيذ تفجير مباني المؤسسات المالية. وهذه الفكرة ذات أصل بوذي، قام نيتشه بإعادة صياغتها، حيث لا يمكن الوصول لحالة السلام الداخلي إن لم يتخلّ الإنسان عن أنانية حماية الذات وتأليهها وتقبل فكرة أنه لاشيء تقريبا وأن الحياة دائرة من المعاناة (بوذا)، تبدأ بالولادة وتنتهي بالشيخوخة والألم والموت. وفي حالة تقبل الألم فقط يمكن المرور نحو التفكير في قطع جذوره، إن الأمر شبيه بصدمة السرطان التي يمر بها المريض، فالإنسان موهوم بالصحة ومحبة الراحة الذاتية، لذلك لا يتقبل فكرة أن يمرض ويموت مثل كل الكائنات، ولا يمر للمرحلة الثانية (الاستشفاء أو الاستسلام) إلا بعد وقت طويل.

-         محاربة النزعة الرومانسية:

يتجلى ذلك أساسا في الشخصيتين الفريدتين لمارلا سينغر وتايلر ديردن (نصف جاك الآخر)، حيث تتسم علاقتهما بنوع من الصراحة الوقحة، فلا يضطران لإخفاء دوافعها ولا طبيعتهما، فتظهر صراعات مباشرة ووضوح مطلق في كل شيء، بدءا من رغبة جاك في البقاء وحيدا بعد الجنس، انتهاء بسوداوية مارلا التي تقطع الطريق دون أن تنتبه لأبواق السيارات المرتبكة، إن واحدة من أهم قضايا الشريط السينمائي، هي قضية عدم إلزامية العلاقة بين الرجل والمرأة في السياق الاجتماعي المُعاق، المليء أنانية ونفاقا وخداعا، لذلك ظلت مارلا سينغر في الأذهان ربما أكثر حتى من شخصية تايلر، لكونها نموذجا غير قابل للتحقق الواقعي بالنظر للخصائص البيولوجية وتاريخ تربية المرأة، خصوصا في المجتمع المعاصر. فهي امرأة وحيدة غير مبالية، ولا ترتدي في الشريط أي حليّ كما لا تضع مكياجا لا من طبيعة مادية ولا رمزية، لا تكذب ولا تهتم للمظاهر، وربما نزعتها الانتحارية تعكس عمق الشخصية التي لا تعيش تحت وصايا المجتمع ونظرة الآخر، إن لارومانسية دردن وسينغر عنصر فعّال في بناء شخصية الشريط السينمائي وتأسيس مفهوم « الإنسان الأعلى »، حيث قد يتساءل المشاهد عن العلاقة الممكنة بين إنسان نيتشه وإنسان العدمية وتشخيص « تايلر ومارلا ».

                                                                            vlcsnap-2018-09-12-11h27m21s624

-         تجاوز أخلاق الخنوع:

يتجلى هذا العنصر أساسا في لاأخلاقية الوجه الثاني لجاك، فتايلر منذ اللقاء الأول يقوم من مقعد الطائرة ويمر من أمام جاك متسائلا:

« سؤال في اللباقة، هل أمر من أمامك مُوليا إيّاك مُؤخرتي أم زبي؟ ».

وهذه النزعة تتعمق فيما بعد حين نعلم أن جاك/تايلر اشتغل في مهن متعددة كان يستعملها كمبررات للممارسة ساديته على الأغنياء والمتملقين اجتماعيا، فحين كان نادلا كان يضع البول وشعيرات عانته في الطعام، وحين كان في دار سينما كان يدس مقاطع جنسية من ثانية أو أقل في شرائط الفيديو فيلاحظها الجميع ويبقون في حيرة وشك، وهو ما يعزز فرضية لاأخلاقية مقاومة عالم غير أخلاقي، وتتبدى تلك النزعة في صور أخرى، حيث كان يعطي تمارين يومية لأعضاء نادي القتال الذين يستقرون معه في المنزل القديم المخرّب، فيطلب منهم مثلا تفجير محلات بيع أجهزة التلفاز والكمبيوتر لأنها لا تنشر سوى الخراء الأخلاقي والثقافي..كما أن هناك مشهدا دالاّ حين يأخذ تايلر المسدس ويصوبه تجاه رأس بائع فقير في محل للطعام، ثم يسأله عن حلمه حين كان طفلا، فيجيبه البائع بأن كان يريد أن يكون طبيبا بيطريا، وفي تلك الحالة يأخذ تايلر بطاقته ويعلم أين يسكن، ثم يخبره بأن عليه الركض حالا والدراسة بكل جهد ليصبح بيطريا وإن يم ينجح فسيبحث عنه ويقوم بتفجير رأسه.

إن اللاأخلاقية في الشريط هي ردة فعل على لا أخلاقية المجتمع المعاصر، لذلك تبدو شخصيات الفيلم فاتنة، لأننا نجد فيها كسرا تخييليا لصرامة وسادية أنظمتنا الأخلاقية الديكتاتورية.

كل هذه الخصائص تفيد بأن فكرة الفيلم عن كيفية مواجهة تفكك الأشياء ممكنة عبر تطوير الذات، أي خلق فُصام ثقافي مع الواقع، فحالة جاك ليست حالة مرضية، إنها في الواقع ردة فعل ضرورية.

                                               التخلص من العنف والفُصام.

يتعلم جاك/تايلر في خضم تأسيسه لنادي القتال وضم المجندين الجدد وتدريبهم كيفية صناعة قنابل يدوية  من النابالم عبر خلط الغازولين وعصير البرتقال الجامد، ثم يفخخ كل بنايات المعاملات المالية والأبناك في مدينة نيويورك، لكن وقبل تنفيذ التفجيرات يبدأ في استعادة ذاته من « تايلر »، يصحو من الفصام حين يعلم بعد البحث أنه هو « السيّد: Sir » كما يناديه أتباعه أعضاء نادي القتال الذي صار أندية كثيرة في كل المدن، وفي صدمة الصحوة من الفصام، يدخل في صراع مع ذاته (تايلر) ليستعيد وعيه الأخلاقي الاجتماعي، فيبحث عن مارلا سينغر أولا  لكنها لا تتفهم وضعه، فيذهب إلى أعلى عمارة مقابلة للمباني المالية، حيث سيجد هناك الخلاص من فصام شخصيته: سيطلق النار على نفسه، لكنه لن يموت، من سيموت هو « تايلر دردن » شخصيته الوهمية التي تتقاسم ذاته، في إشارة رمزية لانتهاء فترة الفصام بعد ممارسة العنف المُضاد ضد المجتمع الذي سلب منه إنسانيته ووجوده « السّوي »، وهنالك ستأتي مارلا ليتصالح معها ومع ذاته أمام مشهد من الانفجارات المتتالية لمباني الأبناك والتجارة والمعاملات التي كانت خالية من العمال تماما في الليل.

بهذه النهاية، نتفهم أن ما حاول الشريط السينمائي قوله هو أن ضياع الإنسان في المجتمع المعاصر راجع لكونه أخضع نفسه لبناء معقد من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والقانونية  المبنية على التراتبية والأنانية وإعطاء القيمة للأشياء السطحية في مقابل إهمال كل ما هو جوهري من القيم الوقحة والمباشرة وغير المُزيفة، الأمر الذي  جعله يضيع إلى الأبد، ولن تكون طريق العودة ممكنة إلا عبر تحطيم ذلك الصنم المتشابك عالميا، لتحرير الإنسان عبر الانفصال المرحلي عن تأثير الحضارة (فُصام جاك)، ثم العودة لتأسيس حضارة أخرى (التخلص من تايلر).

                                       vlcsnap-2018-09-12-15h29m45s490

 

 

 

Publié dans سينما | 1 Commentaire »

في مديح ليليث

Posté par محمد البوعيادي le 12 septembre 2018

                                                                            picasoreds-marla-singer-fight-club-picaso-red

لم تأتني رغبة مراهقة لأكون حزينا مثل الذين فتنت بكتاباتهم حين كنت يافعا، لا استمنائيا يائسا مثل كافكا وهو يشتكي لميلينا كأنه أرملة، ولا عنيفا كارها للنساء مثل نيتشه الذي لم يتقبل فكرة أن يلعب رجال آخرون بأصابعهم المكتنزة في مؤخرة سالومي، ولا زوجا مغلوبا على أمره مثل أرسطو الذي اعتقد أن النساء أقل نبلا من أن يأخذن على محمل الجد فظل موضوعا يوميا لسخرية زوجته البدينة …لقد عشت حالما بهؤلاء الغاضبين من كل شيء حتى قبل أن أعرف شيئا عن المواخير البئيسة ونساء الطريق الثالث ..لكنني لم أسقط في فخ التقليد المراهق..كنت أتوهم أن لكل إنسان مساره الخاص، خاصة نحن المكروسكوبيون في زمن اختفى فيه « النموذج السكران البائس » عن ساحة الشهرة، ف »نساء » بوكوفسكي السعيد بحزنه ووحدته فكرة لذيذة، لكن أمريكا السبعينيات شيء مختلف وقد يبدو تقليد الأمر مهزلة حقيقية غالبا ما تنتهي برجل سكران في زواج بالغصب من ثلاثينية يائسة ..و »ماخور سارتر » الذي أخذ إليه تلاميذه ضدا على المجتمع الكلاسيكي ينتهي عندنا غالبا بمصاريف علاجية لقضيب مليء بالثقوب أو بموت درامي بالسيفليس مثلما حصل ل »بودلير » الملعون حتى في موته، أما غواني عمر الخيام اللواتي تسكبن الخمر في الأواني الفضية فقد اكتسبن وعيا بحقوقهن كفروج مستقلة قادرة على استعباد الرجل، فلجأن إلى دكتاتورية الفرج الأنثوي باعتباره رأسمال مادي. ما رغبت فيه يوما هو ألا أكون جلادا ولا ضحية، ألا أكون سجينا في بيت ضيق رفقة امرأة حزينة تبحث عن التوفيق بين نظرة المجتمع وكراهيتها لي وللملل والسأم اليومي، ولا عجوزا لصيقا بمراهقة تنضج على حساب وقتي وأعصابي.. كنت أريد أن أكون « حرا » في اختيار سجني، لكن ما لم أستوعبه ساعتها هو أن أولئك « العظماء » الذين هربت من تقليدهم، كي لا أبدو سخيفا، لم يريدوا شيئا أعقد ولا أكثر مما أردت: « الحرية » فقط ولو في نطاق ضيق. حرية أن يبحثوا في الأشياء المجردة حول الكون والإنسان والتاريخ واللغة والطبيعة والموسيقى دون أن يضطروا للخوض في تفاهات الحياة اليومية الصغيرة بسبب مصيدة البيولوجيا، لكن النساء كان لهن رأي آخر، إذ يقتصر وجودهن على فرملة تطور النوع البشري، فالمرأة لا تتصور نفسها تساهم في شيء ما يتجاوز نزعة التكاثر وفي أحسن الأحوال صناعة الخداع، لأن الطبيعة صنعت من أغلبهن غسالات صحون وأكياسا لحمل الأطفال. ما جعلني أفشل في أي علاقة لم يكن هو الخداع ولا الملل، كانت تلك مجرد مصادفات محظوظة لإنهاء تلك المهازل، الدافع العميق كان هو اعتيادي على الوحدة والهدوء، على الليالي البيضاء مع كتاب أو سفر مفاجئ أو مغازلة قنينة حمراء حتى الفجر دون مضايقة، لم أفهم دوافعي فسقطت في ما سقط فيه الجميع، أن أكون جلادا وضحية، إذ فهمت الدرس، لكن متأخرا نوعا ما: لا يمكن الجمع بين المرأة والعزلة والمعرفة.

لا يمكن لأي رجل في المجرة أن يهتم بامرأة دون أن يمنحها كامل وقته وكامل المساحة داخل جمجمته، وهكذا لم أكن لأكون أكثر من عاشق توقف نموه العقلي في الثامنة والعشرين، ولعلي مثل الكثيرين من جيلي لا نملك القدرة النفسية الكافية لمنح وجودنا مجانا مقابل الجنس. لقد رفضت الابتزاز الرخيص لنساء العالم الثالث: التخلي عن الحرية والمعرفة مقابل الجنس (الارتباط).

وحين كان علي أن أختار بين سجنين: سجن المرأة وسجن العزلة، اخترت الطريق الثالث: بائعات الهوى والعزلة، بالرغم من أن الامتهان الذي في الأمر لا يطاق وخطورته محتملة..لكن حياة بئيسة منعزلة لا تحتاج إلى أن يضاف إليها جحيم التملك وألاعيب الحب السطحية. لقد آمنت دوما أن الحب تأويل ثقافي للجنس، وفخ صنعته الطبيعة للجنسين معا، وحين لم أصادف ،ولو في الكتب، نساء تفهم ذلك غضبت ضد المرأة، كيف يختزل كائن ذاته في الالتصاق والإنجاب! حتى « مارلا سينغر » التي اخترعها تشاك بولانياك، كانت تريد الالتصاق (أو على الأقل مساحة كبيرة من حياة « تايلر »).

لم أتوقع وجود امرأة مثل ليليث يوما، إذ يبدو من المستحيل أن يكون للمرأة إيمان بلا جدوى التكاثر والتملك وذوبان الذوات في بعضها البعض، حتى ظهرت لي من علبة الرسائل بنهودها وأردافها السمراء الممتلئة بالحياة والعدم على ساق المساواة، تكره الحياة وتحبها، تريد الهرب من نساء العالم الثالث ورجاله المعوقين، تحب حريتها المحدودة، تملك من النبل ما لدى الرجال، وهو شيء لم يتوقعه نيتشه يوما ولا ظنه توماس بيرنهارد ممكنا. ما استوعبته يوما عن علاقة الحرية والمعرفة بابتزاز النساء اللواتي لا تملكن شيئا غير فروجهن ظل قائما دائما، لكن الاستمتاع بالحرية والعزلة والمعرفة بالإضافة إلى رفقتها الخالية من الكلسترول وحضورها المخاتل شيء يستحق التجربة. أليس وجودنا « وتر مشدود بين هاوتين: الولادة والعدم »؟ كل ذات تدرك هذا المعطى الخالي من الزيف والميتافيزيقا تعلم أن وجودها مجرد تجارب عابرة، مع سحر المعرفة ودهشة السفر وغواية الآخر. ليليث « آخر » من نوع فريد، لأنها تدرك ذلك المعطى مثل كل الذين فقدوا اهتمامهم بالتكاثر وتفاهة المجتمع ونظراته السطحية، تدرك مثلي أننا لسنا في حاجة لأن نكون جميلين (بالرغم من جمالها) ولا ملتزمين بمسار العلاقات كما رسمتها التقاليد والغريزة، تملك حسا غريزيا بأن كل شيء مؤقت وعابر وأن الدوام لوجه العدم فقط. ذلك يجعلها في نظري شخصية روائية أكثر منها بشرا واقعيا، « شخصية من ورق » بتعبير رولان بارث، والمثير في الأمر أنها شخصية روائية لم توجد بعد في مخيلة أي روائي.

Publié dans الفكر و النفس | Pas de Commentaire »

أشياء غيرُ مُصطنعة

Posté par محمد البوعيادي le 26 août 2018

 

                                        marla-singer-kelsey-hoefling                                                                        

تخيلت دائما أن كل إنسان يحمل في ذهنه مسدسا محشوا موجها نحو الآخرين، وبالضبط عندما يتعلق الأمر برجل وامرأة، فالجميع صار يخترع معايير معقدة ليبدو في أمان متعاليا، وإن لم تكن لديه معايير جاهزة يستلفها من الآخرين ليبدو صورة كربونية مشوهة عمّا يحلمون بأن يكونوه ويكتبون عنه، قرود تستلف الميمات من قرود أخرى. كنت سأشهر قضيبي اللغوي في وجهكم، مدّعيا أنها عاهرة أو قديسة حسب حالتي المزاجية، لكن السياق يفرض منظورا نسبيا دائما.

عرفتها أول الأمر في سوء تفاهم غريب، كنت أستهتر كعادتي، وكانت تتحدث بنوع من التراجيدية وفقا لسياقها العائلي االخاص، لم نتشاجر كما فعلتُ مع الكراكيز اللواتي عرفت من قبل، توقفنا عن الحديث فقط، ولم تقل أي كلمة سيئة، وهو أمر نادر جدا في النساء، بحكم أن وجودهن مرتبط بحجم الفم. كان ذلك قبل أكثر من سنتين، ثم أرسلت لي رسائل على البريد الإلكتروني، ولم أكتشفها إلا في وقت متأخر جدا، بحكم ازدحام البريد اللعين بالرسائل التافهة من مواقع للكتب ومواقع الجنس الزرقاء والتعارف بين المكابيت الذميمين والذميمات ورسائل وزارة التربية ووزارة الخراء ولا أدري ماذا أيضا.  لا أعرف أي صدفة تلك التي دفعتني ذات ليلة من الأرق لتفقد ثلاثة آلاف رسالة، بحثا عن لاشيء كعادتي، لأعثر على نص وبعض الشذرات الأدبية التي لم أظنها كُتبت بعقل امرأة. أقول ذلك لأنني منذ قرأت تلك النصوص لأول مرة شعرت بأن سوء التفاهم ذلك كان حقيقيا، وكانت تلك الشذرات متوجسة، وتحمل ثقل ذاتها، كأن كل جملة تكره الحروف التي كُتبت بها:

 

« كل شخص يضاف إلى ﻻئحة معارفك هو رصاصة محتملة قد تعرقل شرودك يوما ما في شارع ما ».

 

تخيلت أن الأمر إذاً كان شرودا في أحد شوارع تلك المدينة الجهنمية الملآى بالجنس والسُّواح والضحك. استأنفت الحديث معها مرة أخرى بدون نوايا. وكأي امرأة لا تنتمي للعالم المُعوّق الذي أتخبط فيه، تحدثت إلي  وكأن شيئا لم يكن. وحين طال خيط الكلام، تبيّن لي أن لا مكان لأي نوع من الإيمان في تلك العيون المريضة بشكل جميل، بما فيه الإيمان بالبشر، وأنها ككل المعطوبين نفسيا في واقع مات دون أن يُدفن، تبحث – فقط – عن إنسان « يستحق » القليل من الحديث بدون التصاق تام. كانت تريد أن نتواصل فقط، فالحديث الجيد يصبح مهمّا في حالة أناس « مثلنا ». لقد بدت لي مُثقلة من الداخل، كأنها تحمل همّا أزليا، والناس قد يتشابهون أحيانا في الفراغ الذي يعجزون عن التعبير عنه، لكن أهم ما في الأمر أنها لم تكن تتصنع شيئا، ولا تستقي آراءها من أحد، بقدر ما تبني مواقف نسبية في احتكاك دموي مع كتابي المفضلين وآخرين لم أعرفهم يوما، وهو أيضا طبع رجالي لم أقابله يوما في امرأة، فالنساء تهربن من أي خطاب فيه نسبة كبيرة من التجريد، بحكم حجم أدمغتهن. كانت قارئة جيدة، تفضل النصوص الثقيلة على ستاتوهات الاستمناء النفسي التي تملأ الويب تبريرا – بشكل غير مباشر- لأعطاب الأسنان والسمنة والذمامة والعجز الجنسي والقصر والسواد والصلع والأصل الفقير… . كانت تحب الكتاب الذين ينتمون إلى الزمن الماضي في لغاتهم الأصلية، لذلك بمجرد ما اختلينا تحت قمر شهر غشت في سطح المنزل الخالي، بدأنا في هلاوس لغوية عن أشياء لا أحد منا يعرف ماذا تعني.

 تسلسلت الأشياء وفق كرونولوجيا تمثيلية شبيهة بتعاقب مشاهد مسرحية كلاسيكية، وكان من الممكن أن يتجه الأمر نحو الملل نفسه، والتفاخر بعناوين الكتب التي لم نقرأها، وبموسيقى لا تعني لنا شيئا في الصميم، وربما بأحاديث مرفوعة عن سياق البساطة، فكثيرا ما يتحول لقاء ليلي إلى محاضرات في تاريخ الأفكار، لكنها كانت دوما تعكس روحا مرحة لا تكترث لشيء، بحكم أنها تغيّرت كما تقول.  التقينا في القرية حيث أشتغل بإيعاز من رغبة خفية من كلينا، لم يكن لدي مكان آخر لاستقبالها دون تدخل الجيران المنافقين، سوى تلك القرية المنكوبة حيث لا أحد يهتم بأكثر من الخبز.

لم أتوقع أن يكون الأمر تلقائيا بذلك الشكل، فقد كنت متعودا على ملاحظات مبدئية حول شكل البطن والوركين والرأس ولون الجلد وحجم فتحتي المنخرين وثمن قنينة النبيذ وغياب أو حضور شيء ما يتعلق بالبيت، مثلما يحدث لي عادة، كنت متعودا على الميزان المختل الذي يحمله كل شخص داخل رأسه ويقيس به الآخر. لكننا لم نضطر للتظاهر بشيء، وهكذا على الأقل اختلف الأمر هذه المرة.

 بدت لي في شمس الظهيرة الحارقة تحمل حقيبتها قرب محطة البنزين، متعبة بعد ساعات طويلة من السفر، ففي الوقت الذي تنعم الموظفات مثلها بسفريات للبحر عبر سيارات الرونو لرجال « الطبقة التي تعتقد نفسها وسطى » (قياسا إلى الأصبع الأوسط)، قطعت كل ذلك المشوار نحو أكثر القرى حرارة في المنطقة، وكان ذلك شيئا طبيعيا وتلقائيا بالنسبة لشخص يعيش بمنظور مغاير للمألوف، وينظر إلى الأشياء بسخرية مستمرة، وبنوع من اللامبالاة. بمقدور شخص مثلها أن يقطع صحراء كاملة مشيا على قدمين حافيتين لإجراء محادثة تستحق، ثم العودة من الطريق نفسها، أو هكذا خيّل إلي، وقد بدا ذلك جليا من خلال اللامبالاة  الطبيعية من كلينا.

كانت أمسية ذلك اليوم محفلا لصراع أيروسي مباشر رغم تعب السفر، لم تمهلني الكثير من الوقت، ولم تمهل نفسها فسحة للراحة، كانت تنظر إلي بعينين مليئتين بغضب شديد يريد أن يخرج، لم نكلف أنفسنا تعب المقدمات، ولا سخافة كسر الجليد، كان واضحا أن امرأة تقطع مئات الكيلومترات لم تأت لتستمع لمحاضرات حول نيتشه، الذي سرعان ما قفز إلى محادثاتنا كـأننا مراهقان من المرحلة الثانوية. انضمت إلي في وقفة غير متكافئة الطول، لكنها مناسبة تماما للجنسين. بدوتُ بجانبها مثل سلم طويل للصباغة، لذلك صعدت فوق قدمي، الأمر الذي أثار القليل من الضحك، لكن سُمك حوضها الغارق في الأنوثة، ونهداها الواقفان كجنديين وشفاهها الحمراء الغليظة سرعان ما شغلا يديّ وفمي، فلم نقل شيئا. كانت تشهق بعنف وكأنها تبحث عن اختناق ما، ومن دفء جسدها الأسمر المرمريّ كانت تلفحني نار كل آلهة العشق عند البشر، في حين كنت أراقب ملامحها المتغيّرة بدهشة.

ضحكنا ذلك المساء كثيرا، واستمعنا لبعض الموسيقى، ثم افترشنا بعض الأفرشة البسيطة فوق سطح المنزل، وغرقنا في أحاديث ليلية لا تنتهي على إيقاع النبيذ ولكنتها الفرنسية الجميلة. وجدَتِ النبيذ مُرّا، ولم تستسغ الويسكي أيضا، ولكنها عل الأقل لم تضطر للتظاهر مثل معظم من تدعين معرفة كل شيء. كنت لأفضل اللواتي لا تردن تأكيد شيء أو تبرير شيء لأحد، ولكني لم ألتق بواحدة قبل ذلك اليوم.

كانت ليلة مليئة بالأحاديث التي تعودنا على خوضها قبل أن نلتقي، لم يكن جسدانا في نتوئهما موجودين، اتصلت الرؤوس مقرونة ونحن مستلقيين تحت سماء القرية الصافية المليئة بالنجوم، وفي ضوء القمر الخافر خلف الغمام الداكن تحدثنا عن كل ما يمكن أن يؤرق صداقة اثنين من مدينتين بعيدتين، وتجاوزنا كل تلك التفاهات والمسرحيات التي تحصل بين الجنسين عادة، باستثناء التفاهات الحلوة، كرأسها الذي لم يغادر كتفي. حدتثني عن أعطاب الطفولة والدراسة والمغامرات النادرة التي مرت بها، ولم تنزل لمستوى رسم صورة مزيفة، في حين فعلت شيئا شبيها بذلك، واسترسل بنا الحديث إلى أن يقطعه في كل مرة سيل من المناورات العسكرية. كان النبيذ قد لعب برأسي، فأحببت السماء وسمرة جسدها العاري من الزيف والأكاذيب، فداعبت كل شبر فيه بباطن يدي العملاقتين وأنا أتمتم أورادا دينية قديمة.

في الصباح، تعوّدَتْ طوال الأيام الثلاثة اللاحقة، على الاستيقاظ قبلي، وبمجرد ما أستفيق أجدها مسمرة أمامي تتطلع إلى وجهي الشبيه ببطيخة، فنعود للنوم مرة أخرى، وتنكمش مثل قطة صغيرة رغم الحر، فلا نستفيق إلا عصرا للإفطار. كان أكثر إفطار متأخر في العالم ربما، ليلحقه روتين اليوم السابق، مع تغييرات جديدة، مثل الأحاجي الارتجالية التي أحب صناعتها، حكاية  الكثير من النكت البذيئة، ولعب الشطرنج، اللعبة التي اعتقدت أنني نسيتها، فأخذت تشرح لي القانون، لأجد نفسي متفوقا عليها في أول مباراة. كان واضحا أنها  لا تحب الخسارة في الشطرنج، بالرغم من خضوعها الكامل في أشياء أخرى..ربما لأنها تولي أهمية للانتصار في ما هو عقلي حسب ما فهمت، هل توجد نساء كثيرات تغضبن من الخسارة في لعبة عقلية؟  

طوال تلك الأيام كنت أطبخ العشاء في حين تتكلف بتحضير الفطور، لطالما اعتقدت أن حياة تلقائية لا يفترض أن يكون فيها متسع لوجبة الغذاء.  بعد ذلك نجلس لندخن ونشرب ونتبادل أطراف الحديث عن كل الأدباء والموسيقيين الذين نعرف، لنجد أنفسنا فجأة في المساء، مستلقيين في غمام ليالي غشت المشتعلة.

في اليوم الثاني وقع واحد من أطرف المواقف التي يمكن أن يمر بها إنسان. كان موقفا مضحكا فعلا. ونحن جالسين في السطح نتبادل القبل، كنت على علم بأنها لازالت عذراء، لكني لم أتوقع أنها ستصرخ صرخة شبيهة بصرخة القندس. في غضون دقائق كان كل الناس قد خرجوا للدروب الضيقة، وفتحوا نوافذ البيوت المضيئة بحثا عن مصدر الصرخة العجيبة، التي ضحكنا في ما بعد ونحن نشبهها بلوحة « الصرخة » لإدوارد مونش Edvard Munch. ظللنا صامتين في سطح المنزل نتوقع ما الذي يمكن أن يحدث. توقعت أن الناس ظنوها صرخة امرأة تستنجد من لص، لذلك سرعان ما عادوا إلى منازلهم وأغلقوا النوافذ، فانطلقت ضحكاتنا المكتومة ونحن نحاول تنظيف الدم الذي لطخ الفراش. كان جسدها النافر بالمنحنيات عند الصدر والورك يتلعثم تحت ضوء القمر، حين أمسكت بي وهي تنظر إلى كمية الدم الكبيرة التي نزفت من فردوسها الصغير، فضحكنا مرة أخرى ونظفنا المكان وجذبنا الغطاء، لنستمر في الحديث حتى بزوغ شمس اليوم الموالي.

مر اليومان المتبقيان سريعا: أحاديث في الأدب وقهوة ومشاركة في المطبخ الصغير.

 قبل المغادرة اطلعَتْ على بعض الكتب التي كنت أخزنها في عبوات كرطونية، وأخذت بعض الكتب الفرنسية، ويا لدهشتها حين اكتشفت أن لشبنهاور كتابا حول كيفية أن يكون المرء سعيدا !  في حين منحتني هدية بسيطة وجميلة جلبتها من مدينة الرياح في رحلة سابقة لها هناك.  وفي المسائين المتبقيين كانت تقرأ أحيانا غير عابئة بوجودي ونحن نستمع للموسيقيين الروس المجانين، في حين أنفث عليها الدخان في محاولة لتشتيث انتباهها.

ما أذكره تماما عن تلك الليلي الأربع يختلط فيه الفكر بالمعيش، وربما كان ذلك النمط من الحياة هو ما تحدث عنه الكثيرون نظريا: عم الاكتراث للأشياء الثانوية، الإفطار متأخرا، النبيذ، الكتب، الموسقى الكلاسيكية، السهر فوق سطح مفتوح على السماء. أشياء تبدو مبتذلة جدا، وربما شاعرية بشكل مثير للخجل، لكنها قطعا أشياء غير مصطنعة.

 

Publié dans القصة القصيرة | Pas de Commentaire »

« طعم الكرز »: شاعرية الموت وجمالية « القليل »

Posté par محمد البوعيادي le 12 août 2018

1200x630bb

يندرج شريط « طعم الكرز » 1997  للمخرج الإيراني عباس كياروستامي  ضمن ثلاثية سينمائية فريدة تتناول قضية « معنى الحياة » وما يرتبط بها من قضايا فرعية كالموت والانتحار والحب والسعادة )تستمر الحياة- تحت شجر الزيتون – طعم الكرز(، وتذكرنا بالثلاثية الشهيرة )الألوان( لكيشلوفسكي عن تغيرات الوجود الإنساني بين اليأس والأمل.

يندرج العمل حسب التصنيف القبلي، ضمن الحساسية الجديدة في السينما الإيرانية، والتي بدأت منذ ستينيات القرن الماضي، معتمدة على شاعرية الحوار وعمق القضايا الفنية مع بساطة الفضاء السينمائي ومُباشرته، لكن – وطبعا – مع قدر هائل من الرمزية، ما يجعل الفيلم نفسه قابلا لتأويلات وإحالات خصبة.

تبدأ قصة الفيلم برحلة رجل في منتصف العمر « بادي » أو « بديع »، حيث يبحث عن شخص ليساعده. لا نعرف في البداية أي مساعدة يحتاج بالضبط، فهو يقود سيارته – التي ستشكل فضاء سينمائيا مهما لمعظم المشاهد- في منطقة للمقالع الرملية، تتناسب ألوانها الصفراء القاحلة مع اختيار ألوان تصويرية خافتة وشاحبة. وفي لقاءات متنوعة بأنواع من الناس من قوميات مختلفة ) كردية وتركية وأفغانية(، نكتشف أن بادي يريد الانتحار بتناول كمية من الحبوب الطبية، والنوم في قبر حفره في ربوة صغيرة، وكل ما يطلبه هو شخص يأتي عند الفجر ليحيل عليه التراب إن كان ميتا (أو يساعده على النهوض إن كان حيا).

معظم مشاهد الفيلم مبنية على شكل حوارات، ما يعزز فرضية انتماء الشريط لتيار الحساسية الجديدة، التي تتبنى الحوار الشاعري والفلسفي كمادة لبناء المشاهد.

                                                 البسطاء يهربون من الموت:

يلتقي « بادي » أولا بجندي كردي شاب لم يبلغ العشرين، يخبره بأنه مستعد بأن يعطيه مبلغا ماليا كبيرا إذا قبل تفقّده في حفرة القبر عند الفجر وإحالة التراب عليه إذا وجده ميتا، لكن الجندي يفتح باب السيارة ويفرّ مذعورا، فالبسطاء لا يتقبلون فكرة الموت إلاّ كقدر، ومن المستحيل أن يستوعبوها  باعتبارها اختيارا، أو هكذا بدا الأمر من ردة فعل الجندي. وقد مثل نموذجا أولا أو طبقة أولى من الناس، تعيش بدافع البقاء غريزيا، وتموت بمنطق البيولوجيا القهري.

الدين والتأويل المزدوج للانتحار

في اللقاء الثاني، يحمل بادي طالبا أفغانيا درس الشريعة في الكلية، ليوصله إلى مكان ما، وفي الطريق يقترح عليه الفكرة ويعرض المال، لكن هذه المرة لم يهرب الطالب، بل دخل معه في حوار، حيث يمثل الطالب طبقة ثانية تفكر في معاني الموت، لكن من زاوية مغلقة مرتبطة بالنص والمقدّس.

يحمل الحوار الذي دار بينهما دلالة وجودية، إذ يعرض لوجهتي نظر تأويليتين لموقف الدين والإله حول الانتحار.

# يمثل طالب الشريعة التأويل الأول والمطابق لظاهر النصوص القرآنية، إذ يوظف في خطابه الآية « ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة »، ويبني تأويله على حُرمة قتل الذات في التقليد الإسلامي، حيث يقول « إن الرب هو من يضع الروح داخل الجسد وهو وحده من يحق له سلبها منه ». يوضح لنا هذا الموقف بالذات الثقافة الدينية العامة تجاه قضية الحياة، فهي مقدسة لأنها ليست غاية في ذاتها، وهي ليست ملكا للإنسان بقدر ما هي مُعطاة كأمانة واجب الحفاظ عليها، كما يوضح لنا سبب رفض سينما كياروستامي في إيران واتهامه بالعمالة للغرب والعداء للإسلام والتآمر عليه، فهو يقدم في معظم أفلامه تصورا فريدا للحياة والوجود ينبني على الشك والتناقض وعدم تطابق المواقف، عكس الرؤية الدينية الكلاسيكية التي تتخذ موقفا نهائيا حاسما حول « ضرورة الحياة » أولا.

# الموقف الثاني أو التأويل الآخر ليس سوى تأويل « بادي » نفسه، إذ يُجيب الطالب الأفغاني:

-         « أنا أعلم أن الانتحار من الخطايا السبع، لكن أن يكون المرء تعيسا خطيئة أيضا، فحين تكون تعيسا أنت تؤذي الآخرين، عندما تؤدي عائلتك وأصدقاءك أليست تلك خطيئة؟ عندما أؤذيك ليست خطيئة وعندما أضع حدا لحياتي خطيئة؟ ».

تكشف وجهة نظر « البطل »(لا أعرف إن أمكن توظيف مصطلح البطل حول أفلام كياروستامي) عن تجربة المعاناة الفردية في الحياة، والتي تنتهي بفقد الرغبة و »المذاق »، حيث يبلغ الفرد حالة الاقتناع بأن حالة اللاوجود ليست بالضرورة خطيئة، لكن كياروستامي لا يصدم متلقيه بتأويل عدمي مباشر لقضية الانتحار، غير أنه يُضَمِّنه في ثوب ربوبي، حيث يقول بادي للشاب الأفغاني مستعطفا:

« أنا أعتقد أن الله عظيم وأنه لا يريد أن يرى عباده يتعذبون، عظيم لدرجة أنه لن يُرغم مخلوقاته على العيش ».

ينتهي الحوار برفض الشاب الأفغاني، ما يدفع البطل للتفكير برمي نفسه في مقلع للرمال كي تطمره الجرافات، لكن « أملا » يلوح في الطريق، حيث يصادف رجلا تركيا عجوزا يحتاج توصيلة لمقر عمله.

                                                    حكمة الرضا ب »القليل »

يعمل الرجل التركي العجوز في متحف قريب لمدينة صغيرة، وتبدو عليه علامات الوقار ونوع من الميل إلى التصوف، عبر قسمات شبه مستسلمة للقدر وملابس بسيطة.

في طريق إيصاله إلى المتحف، طلب بادي الشيء نفسه من الرجل، لكن هذه المرة – وعكس سابقاتها- يقبل الرجل العجوز بالعرض بدون مقابل مادي، وهذا القبول بدون مقابل يأخذ في تصوري رمزية مهمة، وهي احترام العجوز للإنسان بشكل عام، حتى في أحلك لحظات وجوده وأصعب قراراته. لكن هذا العجوز (غير العادي) يطلب من بادي أن يتخذ أطول طريق ممكن نحو المتحف، وهكذا ينشأ حوار شاعري طويل  بين الرجلين، حوار يكشف عن تناقض جوهري بين الشخصيتين، يقول الرجل أولا:

-         « حين تساعد أحدا عليك أن تساعده من أعماق قلبك« .

فيجيب بادي في يأس وهدوء:

-         « وفّر أحاسيسك لشيء أكثر أهمية ».

هذا التناقض القائم بين ذاتين، هو تناقض بين موقفين وجوديين، يفصل بينهما اختلاف تأويل تجارب الحياة. والجميل في هذا المستوى من الحوار، أنه لم يطرح تناقضا بين موقف ديني وآخر لاديني، بل ابتعد عن اعتبار المحدد الإيديولوجي بصفة عامة، وركز على عنصر التجربة كفيصل، التعارض إذا بين موقف مستسلم للحياة، استثمر إذايتها وعبثيتها وشرورها  في تقبلها ومحبة الآخرين، وموقف رفض عبثية الحياة واتخذ مسافة منها.

ربما حاول العمل الفني في هذا المستوى أن يخبرنا بأن قضية الحياة والانتحار لا تتعلق بالدين والإلحاد والعدمية، ولكنها تتعلق بتأويل التجارب الذاتية في الوجود، لذلك لم يحمل الحوار الأخير أية مسحة إيديولوجية ولم يوظف نصوصا بقدر ما وظف عنصر التجارب.

حكى عامل المتحف العجوز نكتة وقصة ذاتية لبادي. فما دلالتهما؟

# تدور النكتة حول رجل أينما وضع أصبعه في جسمه يشعر بالألم، فيعقتد أن كل أجزاء جسمه مريضة، لكنه حين يزور الطبيب، ينبّهه إلى أنّ في أصبعه كسرا صغيرا، وهو سبب الألم.

تحيل هذه السردية رمزيا إلى إشكالية الفكر والواقع، هل العالم كما نراه من منظورنا (منظور الأصبع المكسور) أم أنه مادة خام لها استقلاليها وقابلة لتأويلات كثيرة ومتنوعة؟  أراد العجوز أن يُخبر بادي أن نظريته السوداوية مقبولة كتأويل، لذلك سيساعده، لكنه أراد في الوقت ذاته أن يخبره أن هناك تأويلات أخرى لمصاعب الحياة وبرودها وعبثيتها، وربما أراد أن يخبره أن عبثية الحياة وغياب معنى فيها دافع إضافي لنعيشها بدون درامية بل بتذوق حتى أبسط ملذاتها.

# وسيتأكد الأمر حين يحكي العجوز قصته الذاتية مع الانتحار ل »بادي ».

يخبرنا العجوز بأن صعوبة الحياة الزوجية وكثرة المسؤوليات والأطفال والصعوبات الاجتماعية دفعته مرة للانتحار، فاشترى حبلا وقصد شجرة كرز. وحين صعد ليربط الحبل وجد حبة كرز، وتزامن تذوقه لطعمها مع خروج الأطفال الصغار مهرولين من مدرسة قريبة، فتناغمت أصواتهم مع لذة الكرز في فمه، وفي الأخير قطف الكرز من الشجر وأخذه لزوجته وأولاده، وعدل عن فكرة الانتحار. ومن هنا طبعا فكرة عنوان الفيلم « طعم الكرز ».

قدمت التجربة التي حكاها العجوز عنصرا جديدا للبناء الدرامي في الفيلم، فقد بدا من ردة فعل بادي أن قرار الانتحار ليس بتلك السهولة التي ظنها، وأن هناك تأويلا مختلفا، ليس على ساذجا ولا ديكتاتوريا، وهو الأمر الذي عزز فرضية اعتماد كياروستامي على التناقض كمبدإ حيوي في الأفلام التي يكتب سيناريوهاتها بيديه.

يصل بادي ليلا إلى الحفرة التي صنعها وينام داخلها فتهطل الأمطار غزيرة ويخيم الليل على المشهد، ولا نعرف إن كان قد شرب الحبوب الطبية أو لا، كما لا نعرف إن كان لايزال يرغب في الموت أم أنه ذهب ليجرب إحساس الاستلقاء في القبر فقط. ينتهي الشريط السينمائي بذلك المشهد القابل لتأويلين متناقضين، وهي خاصية سيعتمدها كياروستامي كثيرا في أفلام أخرى، مثل « نسخة مُطابقة » مثلا، حيث لا نعرف إن كان البطل سيعود لزوجته أم لا، إذ يشكل العمل السينمائي عند كياروستامي مصدرا لطرح الأسئلة وعرض تضارب المواقف والآراء والمنظورات أكثر مما يشكل سرديات مُغلقة وإجابات.

 

 

 

 

Publié dans الفكر و النفس | Pas de Commentaire »

هرباً من مُستنقع العقائد

Posté par محمد البوعيادي le 27 juin 2018

30222158563_31fe00eb6e_o

طوال قرون طويلة ساد الإيمان بجنيات الحدائق، ثم بالساحرات والأنبياء والآلهة والخيول المجنحة، وقتل الكثيرون بعضهم البعض بسبب ذلك، واستعمل الشّامان والإكليروس والفقهاء والحاخامات والكهنة والمُلوك تلك الرموز قيود استعباد لعامة الناس، وترسّخت نقمة الملكية الفردية وتصارع البشر حول وسائل الإنتاج والأرض وطحن بعضهم بعضا، ففكر آخرون في تقويم الوضع بأخذ امتيازات مؤقتة لتصبح أبدية، ثم تحولوا إلى قتلة باسم الشعوب وحولوا ثوراتهم إلى أصنام ورصاص يخترق صدور الجميع، واصطدم كل شيء بالطبيعة البشرية، وظهرت الطبيعة القحبية لكائنات بشعة يمكنها مضغ لحم بعضها البعض مثلما صوّرتها حادثة طوافة ميدوزا، وترجمها ثيودور جيريكو إلى لوحة. لكن مع مرور نزعة القومية في بدايات القرن العشرين وزوال حلم الاشتراكيين في الثمانينيات، وظهور الوجه القرداني لليبراليين في حدود نهاية الحرب الباردة وسيطرة القطب الواحد، انتهى القرن العشرون بنغمة كئيبة سمّاها الكثيرون نغمة التفكيك، واعتبرها الآخرون مابعد-الحداثة ووسمها أحدهم ب »عصر السُّيُولة »، ورفض الكثيرون تسميتها.

 بيد أن المشترك بين كل من يشعرون بالوضع الجديد، هو الإحساس بتفتت العقائد وزوال السرديات الكُبرى، والدخول في نسق اللانسق، وغياب مرجعيات ثابتة للحقيقة والعالم، لا آلهة ولا حقائق ولا عقائد متماسكة ولا أعراق منعزلة « متفوقة » ولا معابد أفضل من أخرى، فالله لا يسكن أي واحد منها…لكن هؤلاء قلة جدا، وهم مشتتون بين ثنايا الأبقار المطمئنة السعيدة بعقائدها « الحقيقية »، وهم فقط من يهمونني،على قلتهم، في هذه الثرثرة. إن الفوضى التي دخل فيها وجود البشر، على انعدام قيمته في ذاته، ليست موضوعا عاما، كما أن إشكالات الوجودين الاجتماعي والذاتي للأجيال ليس قضية رأي عام، العامة يفضلون طمئنينة الوهم على صدمة النسبية والقتامة التي تتخلل وجود أغلبنا.

لقد انتبه ماركس إلى أن إيديولوجيا الثورة الفرنسية عبّرت عن المصالح المادية لطبقة معينة، من ثمة فشعار الكونية والإخاء والديمقراطية والتنوير الذي رفعته كان مجرد قناع إيديولوجي لإسقاط الفيودالية لصالح طبقة التجار، والذين سرعان ما استعبدوا كل شعوب الأرض عبر حركة استعمارية موسعة، واستعبدوا عمّالهم بعد توسع دائرة رأس المال، فحولوا الثورة  الليبرالية إلى أداة قمع. وعلى العكس تماما اعتبر نيتشه أن كل تاريخ الأخلاق والنضال هو قناع لإخفاء حقد العبيد على الأسياد، أي صناعة إيديولوجيات سياسية وأخلاقية وثقافية لقتل الحياة في منظورها الخالص والطبيعي، من ثمة فكل تعبير سياسي أو حقوقي كان مجرد محاولة لنفي الشرط البيولوجي الطبيعي لتراتبية البشر. في حين نظر فرويد إلى أن كل حضارة البشرية هي زيف وخداع وتبريرات للتغطية على قمع الرغبات، إننا نخلق أنظمة إيديولوجية مثل الدين والفلسفة والعلوم النفسية والسحر وكل أشكال المعرفة لمحاولة تنفيس الرغبة L’abréaction، وحضارة كل البشر هي تحويل لطاقة الجنس المقموع، من ثمة فكل تاريخهم إيديولوجيا، بما هي تحوير للحقيقة الراسخة، حقيقة الرغبات اللاواعية.

أما الأديان فقد التزمت بمنطق الحقيقة المطلقة، وألصقت بطاقة الشيطان على كل ما لا ينتمي إلى دائرة الفهم التي رسمها كهنة المعابد. إن التفسير الأسطوري للاختلاف، هو جوهر عقيدة الدين، وهو تفسير ينحو نحو القهر المادي، لأن الاختلاف يضيّق الخناق على عنق النصوص المُمقدسة. من ثمة كل أديان البشرية وفلسفاتها السياسية والاقتصادية والأخلاقية سقطت في سهو المصلحة، المصلحة المادية، إما مصلحة  شخص ضد آخر أو طبقة على حساب أخرى، أو مصلحة أمة على حساب أخرى، أو فئة ضد فئة، أو مذهب على حساب مذهب…إلخ، وحتى من من استطاع الانفلات من ربقة هذا الجحيم المليء أنانية، سقط في وهم مصلحة البشرية جمعاء، في حين بينت التجارب التاريخية استحالة تجاوز الشرط الطبيعي، شرط الذئبية (ت.هوبز)، مثلما كشفته حقيقة النازية والفاشية والماركسية والليبرالية الرأسمالية وحركات الأديان والقوميات جميعا.

لا يملك الوعي إذا سوى أن يعي شرط ورطته الكبرى، فكل إيديولوجيا هي تعبير عن مصلحة مُعلنة أو خفية لجزء من البشرية، مهما كان صغيرا أو كبيرا، وكل إيديولوجيا هي تقزيم للواقع ومحاولة لحصره داخل علب مُلونة، الإيديولوجيا قناع أو أقنعة لتكميم الواقع.

وأمام هذا المعطى التاريخي والواقعي أعتقد أن حلول البشرية محدودة جدا، وكي لا أدخل في نقاش تعميمي، يمكن (وليس يجب) أن تحل إشكاليات الإيديولوجيا والوجود المسبوغ بالأنانية وحب الجينات، باتباع مبدئين:

-         التوقف عن الإنجاب..

وذلك لاستحالة تحقيق وحدة البشر، ولاستحالة تحقيق السعادة، ولعل آلالاف السنين من التجارب كافية تماما، وربما المائة سنة الأخيرة دليل حيّ، فتوفر كل الإمكانيات التقنية المتطورة وتطور الطب وأساليب الزراعة وعلوم الحياة وحتى الفضاء، لم يرأب الصدع بين قطاعات البشرية المختلفة، بل زاده اتساعا، وضاعف من سيزيفية التجربة الإنسانية في أكثر من ثلثي بقاع الأرض، بدءا من الاستعمار والاسترقاق وانتهاء بالحروب وسحق السلطة للبشر بشكل دوري. إن توقف المعذبين فوق الأرض (بتعبير فرانز فانون) عن الإنجاب، ليس مجرد خيار الآن، بل هو واجب أخلاقي يمليه الحدس السليم. فمقاطعة الثقافة الإنجابية والإيديولوجيا التكاثرية التي تسند نفسها بالدين والفلسفة والتاريخ نتيجة حتمية لوصول الوعي إلى عتبة الواقعية، إذ إن كشف ميكانيزم الأمل غير ممكن من داخل التوجهات المتفائلة، أو هكذا علمنا التاريخ على الأقل، فكل إيديولوجيا تكاثرية تؤسس لوهم العدالة، تنطلق من قاعدة ضمنية، مفادها أن تحقيق شروط السعادة للبشرية جمعاء شيء ممكن، وواضح لأي عقل مهما كان تافها، أن هذا التضمين استحالة منطقية واقتصادية وبيولوجية وثقافية …لذلك فالتخطيط لاضمحلال الجنس البشري هو أكثر الأهداف أخلاقية، وربما الهدف الأخلاقي الوحيد المتبقي للبشرية. ويمكن لهذا الاضمحلال – زيادة في الشرح – أن يتخذ طابعا احتفاليا عوض النزعة الكئيبة والنغمة الجنائزية التي يفرضها فعل التناسل منذ فجر التاريخ، كأن يقضي آخر جيلين من البشر حياتهم في كل ما هو مُبهج..هربا من شقاء الوعي ولو لمرة واحدة.

الثاني: التوقف عن الاعتقاد.

من المستحيل أن يتحقق المبدأ الأول، دون تحقق شرط القضاء على الوثوقية. إن أصعب تجربة لم ينجح فيها البشر عبر التاريخ، هي تجربة القدرة على تجاوز الإغراء السيكولوجي للمعتقدات السياسية والفكرية والوجودية. ولعل الوصول إلى نفي الوجود الشقي، يمر عبر آلية تدريب النفس على التخلّي عن الحقيقة مهما كان مجالها ومضمونها، علميا أو سياسيا أو أخلاقيا أو تشريعيا. وقد ساعدت الفيزياء الكمومية في توطيد الطريق نحو هذا التجاوز، عبر مبدإ « الارتياب incertitude » كما صاغه هايزنبرغ حول سرعة وموضع الإلكترون، لكن يبقى على العلوم الإنسانية والفلسفة أن تنقل هذا المبدأ إلى قلب التصورات الأخلاقية والثقافية لكل البشرية، فطريق العلم يؤكد  الضد تماما لما كان يهدف إليه علم القرن الثامن عشر بنزعته الوضعية positivisme التي تؤكد القدرة على تفسير الكون وكشف أسراره. إننا اليوم أمام الاستحالة التامة لتفسير كامل للعالم، وأمام العجز الشامل حتى على فهم الإنسان ذاته، لكننا نلاحظ كمية الشر التي يتمتع بها العالم في كل جزء منه وكل ناحية من نواحيه، بدءا بلامعقولية الكوسموس ككل، انتهاء بتفاهة التنظيمات الاجتماعية الملآى بالصراع والتطاحن والقتل والتنكيل بكل الموجودات، بدءا بتنكيل البشر ببعضه البعض، وانتهاء بتنكيله بالطبيعة وكل أشكال الحياة.

إن العلمين البيولوجي والفيزيائي، لابد أن يُترجَما، في أقصى ما وصلا إليه إلى خطاب إنساني على المستوى الإبستيمي والأخلاقي، لتحرير الإنسان من عبودية التناسل، وعبودية الاعتقاد بالبقاء، فهذا التحرير المتجاوز للبرمجة البيولوجية، هو أكبر عملية هروب من الإيديولوجيا يمكن أن تحققه البشرية. هذه العملية التحريرية، ستؤدي تلقائيا  إلى اضمحلال كل دوافع العنف لدى البشر، وحتى إن انحسرت التجربة في عدد قليل من الناس، ولم تعمم – بسبب تطلبها لمستوى معين من الإدراك – فسيكون لها أثر أخلاقي ومعيشي جيد على حياتهم، أو على الأقل ستحررهم من لعبة السقوط المتوالي في إنتاج التجارب السيزيفية المتناقلة عبر الإراثة من جيل إلى آخر …

يبدأ إذا مسار مواجهة عبثية العالم وقسوته اللامتناهية، بتعليم الذات كيف تتحرر من الإيديولوجيات الجزئية، ومن ثمة القدرة على الاستمتاع، وصولا إلى التحرر الكبير من أخطر إيديولجيا تطوق الوجود البشري:البرجمة البيولوجية على التكاثر.

 

 

 

Publié dans الفكر و النفس | Pas de Commentaire »

في الحاجة إلى السخرية …

Posté par محمد البوعيادي le 13 juin 2018

 téléchargement

الوجود مفاجأة ثقيلة، لكنه مادة قابلة للسخرية.

توجد في جينات الإنسان الثقافية صفة  قتل المرح، بحكم أن كل تاريخ الوعي كان محاولات جادة للتفسير الملائم للحقيقة، حقيقة كل شيء ! والمثير في الأمر أن كل تاريخ العلم والمعرفة الفلسفية والدينية والأسطورية لم يجب عن الأسئلة الكبرى، منذ لحظات الكتابة الأولى إلى عصر النانوتكنولوجيا وفلسفة التفكيك استطاع الجنس البشري أن يقوم بتفسير كمي لمعظم مظاهر الطبيعة، واستخدم بعضها بجدية مبالغ فيها، فصنع علاج الكوليرا والقنابل النووية على حد سواء. لكنه – قطعا – لم يجب عن سؤال المعنى، وبقدر  ما يبدو هذا الزعم مبالغا فيه « فلسفيا » أكثر من كونه « رياضيا »، فلا أحد تقريبا يستطيع إثبات العكس، لا بمعادلة ولا بفرضية..، لم تجب المعرفة الجادة على أسئلة المصير والمبتدإ والسيرورة، بقدر ما أجابت عن جزئيات واستخصلت التقنية من خامة الطبيعة والإنسان، في حين تلاعبت الأديان بالألفاظ وصنعت تماثيل ساخرة للحقيقة، لكن مع منع الجمهور من الضحك ! بسلطة الخطاب وسلطة المقدس.

هل ننظر إلى العالم بالجدية الصارمة الكافية لتحليله وتحويله؟  نعم … هل ذلك ضروري؟ هذا السؤال يقبل إجابتين في تصوري:

-         يحتاج العالم بصفته الكمومية إلى تفسير منطقي جاد. ليستمر التراكم المعرفي (رغم لاجدواه إلاّ من باب الفضول وإطالة تجربة المعيش بدون هدف ميتا-بيولوجي !).

-         العلاقات الإنسانية والسياسة والاعتقاد والحب والموت والعواطف والانفعالات الحيوانية ليست معطيات كمومية، لذلك لا ينطبق عليها المنهج الصارم للعلم بالضرورة.

في الشق الثاني من الجواب يتموقع كبار الساخرين من البشرية، شابلن وكليمنس (مارك توين) وكارلين وبرنارد شو ونيتشه وسقراط  وسينيكا وابن الراوندي والجاحظ وتوماس برنهارد والمعري..إلخ  وربما حتى الأنبياء. لا أستطيع أن أتصور كل نصائح وتشريعات الأخلاقيين الكبار واللاهوتيين والفلافسة والأنبياء وكبار المربين عبر التاريخ سوى سخرية باطنية مغلفة بالاحترام، ربما استلقى كبار الأنبياء على ظهورهم من الضحك بعد الاختلاء بأنفسهم، مخلّفين وراءهم قطعانا كبيرة من الخرفان تصدق أي شيء، أتخيل المسيح منفردا في غرفته بعد أن صدقوا أنه ابن مادي لفرضية تجريدية، أو ملامح محمد بعد أن اعتقد محاربوه أن كائنات خيالية قاتلت إلى جانبهم في معركة بشرية !

من منظور النشاط الإنساني، والممارسات الإنسانية بشكل عام تصير الجدية شيئا سلبيا، فهي في النهاية لا تفرز شيئا مفيدا لتجربة الإنسان القصيرة في العيش، بقدر ما تعذبه نفسيا أكثر من أي شيء آخر .

الجدية في الاعتقاد مثلا، واحدة من أسوء خصال الإنسان عبر التاريخ، فأخذ مقترحات الآخرين بصورة مبالغ فيها من الصرامة لمجرد كونهم وصفوها ب »الحقيقة » ولمجرد أنها  تصورات « قديمة » معطى حوّل مواضيع كانت لتكون مواضيع نكت مترجمة بين الشعوب إلى مواضيع اقتتال وتزاحم، فلم يكن أحد ليسمع بنظريات سخيفة مثل « صراع الحضارات » لو لم تأخذ مَضحكات الأنبياء على محمل الجد في زمن بعيد. لقد افتقد أجداد البشرية إلى حس الفكاهة  وجعلوا من النكت كتبا مقدسة، ثم في مشهد سريالي لا يستطيع أحد فهمه، تحولت النكت إلى برك لا تنضب من الدماء والبراكين الشعورية الملآى بالغضب والقردانية المجانية.

أما الجدية في الحب فموضوع يمكننا مقاربته من خلال أسخف قصة عرفتها البشرية المعاصرة، قصة تيتانيك، « مضرطةُ ولها نغم » على حد تعبير مظفّر، أو بتأويل سلافوي جيجيك : قصة عاهرة برجوازية استغلت سذاجة شاب من الطبقة الفقيرة. في مشهد يثير الضحك يقرر شاب أن يموت بالبرد عوض أن يصعد فوق لوح الجليد، حيث كان اللوح يتسع لاثنين بل لثلاثة. أما روميو، وإن كانت المسرحية وليدة خيال خلاّق، فكان بمقدوره أن يسرق قبلات وينصرف، في حين كان بمقدور قيس، الخيالي هو الآخر، لكن الدّال واقعيا، أن يستدرج ليلى إلى أي موقع من الفلوات والخلاء الذي عاش فيه ويتبادلا السوائل  بكل نشوة ثم يعودان خفية إلى الخيام وتربية الماعز دون تشهير ولا  دراما مبالغ فيها، وقد تصور أحد النقاد الكلاسيكيين أن تلك القصة لو انتهت بالزواج، لتقاتل الزوجان حول تفاهات الحياة اليومية من طعام وملبس وغيرة وكل تلك الأشياء ورائحة البصل تفوح من ليلى  في حين ، يمكنني أن أضيف، ورائحة الغنم تفوح من قيس…

من منا لم يمر بالثالوث الساخر في الحب؟  النشوة المسكينة لنزعة كلبية في التنازل ومذلة تأنيث الذكورة، ثم الصدمة المُضحكة التي ينظر إليها صاحبها كحادثة تشرنوبيل، ثم فقدان الحس والدخول في صراع نفسي سيكولوجي حول أتفه الأشياء، بسبب تجربة فاشلة كان من المُجدي أن تُعاش كتجربة خصبة مليئة بالنكت والاستعداد لقول وداعا ومرحبا في أي وقت.

أما جدّية المواقف الاجتماعية التي تدور في فلك الاختلاف والتغاير والتنافر أحيانا، حول الإرث والممتلكات والعمل والثروة المادية، فمردها إلى القرد البيولوجي الذي يتقاسمنا مع الراهب المنافق، والذي في نهاية التحليل يمكنه العيش في ظروف بسيطة، يتوفر فيها الحد الأدنى من الحاجيات الطبيعية دون تهويل فعل الامتلاك إلى تلك الدرجة.

يظل إذا أن الخوف من الموت واحد من أهم أسباب النزعة الجدية في النظر للعقائد والأفكار والعلاقات وتجربة الحياة في المُجمل، ولعل السينيكيين والرواقيين عموما، وعلى رأسهم أبيقور ومارك أوريل، وجدوا مخرجا مُسلّيا يعرفه الجميع تقريبا : « حين يوجد الموت لا أوجد وحين أوجد أنا لا يوجد الموت » لذلك لا معنى لأن نخاف، ومن ثمة نصبح جديين وواقعيين ونرفع شوكاتنا كالعقارب ضد الجميع. من أفظع مظاهر الجدية في مواجهة الموت، استنساخ الطقوس الجنائزية في كل المجتمعات، العويل والنواح على جسد سيبقى فيه عظم المؤخرة فقط، ثم سيتحول لنبتة تأكلها معزة أو كومة من التراب يبول فوقها كلب رافعا رجله وذيله.

 بيد أن نيتشه  قال بالحرف لأخته: حين أموت لا تتركي قسا يتلو عليّ تراهاته في وقت لا أستطيع فيه الدفاع عن نفسي. هذه الإجابة المسلّية لم تكن ممكنة لولا الثقة الأكيدة في سخرية العقائد نفسها وسخرية الحب، بعد الفشل الشهير مع لو سالومي الذي حوله نيتشه إلى بكائيات مهجورة في أول كتبه، ثم إلى سخرية وتجاوز طريف في كتبه المتأخرة، ولعل ذلك الروائي الألماني وضع سخرية نيتشه في سياقها العام حين وصف مشهد مضاجعته لعاهرة قالت تحت تأثير النشوة:

-         يا إلهي.

فأجابها نيتشه غاضبا:

-         « استكتي، فالله قد مات ».

لم يكن بمقدوره أن يسخر من موته لولا سخريته من نفسه ومن تاريخ الإنسان ومعتقداته الكبرى. إن السخرية في هذا المقام هي الحرية، تحرّر لامشروط من بدائية الانفعالات البيولوجية، السخرية علامة ثقافية، لكنها ثقافة مضادة …

في نكتة شعبية مغربية، يستعد رجل فقير للموت، ثم يطلب من ابنه أن يحضر له سكينا من المطبخ، وقبل الموت بلحظات يقطع خصيته ويمنحها لأبنائه فيتعجبون ويسألونه لماذا؟ يجيب : كي لا تقولوا أنني لم أترك لم إرثا بعد موتي (يفهم المغاربة هذه العبارة على النحو التالي: كي لا تقولوا أني لم أترك لكم ولا خصية).

إن المخيال الشعبي أحيانا يتفوق على المخيال الأكاديمي، في تدفقه التلقائي مع الحياة، وهنا محط أنظار المتشائمين الساخرين، أمثال شوبنهاور الذي سخر كثيرا من هيغل، ومن نزعته السريالية في خلق مفاهيم لا يفهمها أحد ليسمى « عميقا »، ونيتشه الذي وصف بلزاك بأنه يمتلك مؤخرة كبيرة ومُفلطحة، لأنه يفكر وهو جالس على الكرسي..(أفول الأصنام)، حيث تنزل المعرفة إلى الواقع، لا لتقاربه وفق تصورات جافة بل لتحاوره، والسخرية طريقة في الحوار والفهم والتجاوز قلة فقط من فهموها وجعلوها طريقة عيش ووسيلة مواجهة قساوة العالم والأشياء.

قد تنبعث السخرية عن ذات جريحة أحيانا، وفي غالب  الأحيان يكون الساخر شخصا متشائما ومتألما، على الأقل كما يخبرنا تاريخ الأفكار وتاريخ الفلسفة، فديوجين الكلبي حين أخبر الإسكندر بأن ينزاح عن مسار الشمس لأنه يحجبها عنه وهو مستلق على التراب، كان يعاني من الفقر، لكن لإدراكه أن أموال الإسكندر وعطاياه لن تغير شيئا من ذاته التي تربّت على التخلّي وامتلاك القليل، سخر منه ومن فكرة الامتلاك، كيف ينخدع بمنحة مالية وهو الذي كان يستمني على قارعة الطريق، في مشهد ساخر، ليعرف الناس « من هو »…

وقد تنبعث السخرية عن ذات فهمت طبيعة الأشياء، والذات العدمية ربما تمثل نموذج الذات القادرة على السخرية، عكس ما يتصوره البسطاء حين يمزجون بين الكآبة والاكتئاب وبين العبثية والعدمية، متصورين أن العدمي يقوم بوظيفة المرأة التي تندب في الجنائز المصرية. بيد أن البحث في الحياة الشخصية للذين لم يؤمنوا بالمعنى والإنجابية والسياسة والاستمرار، يعلن عن حس فكاهي منقطع النظير، وعن سخرية أصيلة متجذرة في نصوصهم، إذ لا يستطيع من يؤمن بالأفكار الكبرى : الحقيقة، الله، التاريخ، الحزب، المعنى ..أن يتذوق السخرية ولا أن يكون ساخرا.

قد تكون السخرية فاشلة، مثل نكتي التي تجعل الآخرين يضحكون عليّ لا على مضمونها، لكن على المرء أن يحاول الانفلات من سطوة النزعة الجدية التافهة، والتي لا تقدم شيئا لتجربة الإنسان في الحياة، في حين تشكل السخرية مرهما ضروريا لحروق العيش، وأحيانا ينجح الفاشلون في الضحك في صنع مشهد أو قول أو فكرة تضحك الذين لا يعرفون حقيقتهم في الواقع، أليس سخرية أن نعتقد أن أشد المؤمنين بالعقائد سعداء في حين لا يستطيعون الضحك على نكتة تمس عقائدهم ويتحولون إلى أطفال غاضبين؟ ..

 

 

 

 

 

Publié dans الفكر و النفس | Pas de Commentaire »

الاجترار أو فضيلة البقرة

Posté par محمد البوعيادي le 18 mai 2018

 vacheeee

قبل سبع سنوات  ارتكبت خطيئة محاولة العيش مثل أي إنسان عاد.  أتذكر  تلك الخطيئة جيدا، فبيدي الاثنتين، أو بالأحرى بقدمي هربت منها، وقد ساعدتني صُدف الحياة العادية كثيرا،  بيولوجياً بحيث منحتني ساقين طويلتين للهرب ووجها صلبا  لارتكاب أفظع المواقف بالرغم من الارتباك، ثم بحدث مرعب تمثل في موت أخي الأصغر، كي لا يبقى لي أمل في أن أكون شخصا غير مختل نفسيا، أو على الأقل شخصا غير مُضطهد  من الحياة، وهنا نقاش طويل  يحتاج التحليل لا السرد.

لكن وطوال سنوات  من التفكير  في سنة 2011 بالضبط، لم أفعل شيئا باستثناء الأكل والنوم وإعادة شريط تلك السنة مع تحسس كل شيء تغير في جسدي وعقلي. وأظن أن الكثيرين  يمرون في حياتهم  بسنة واحدة، سنة هي  المفصلية دائما في كل ما يعيشونه من تفاهة التنفس والتجارب المجانية لما تبقى من الحياة بعد تلك السنة بالضبط.

انشغلت كثيرا  بعد تلك السنة  بقراءة المذكرات الخاصة للنساء والرجال، المعذبون والثرثارون واليائسون والجامحون، من آن فرانك  إلى بوكوفسكي، بحثا عن شيء مميز  في حياة الآخرين، خصوصا أولئك الذين اشتهروا، لاعتقادي أن الشهرة مرتبطة  بحياة غنية بالتجارب، وكان سؤالي كيف استطاع المشهورون  من الكتاب والسينمائيين تجاوز السنة الحاسمة التي غيرت حياتهم ثم كيف أصبحوا بعد ذلك.

منهم من تطلق وأصيب باكتئاب، منهم من عاش سنة مزاجية بسبب الضرائب ثم فقد ثقته في الدولة والنقود والكتب، وطبعا هناك اليابانيون والأمريكيون والإيطاليون، ميشيما وهمنغواي وشيزاري بافيزي، الذين جعلوا من سنتهم الحاسمة آخر سنة في الحياة. ثم هناك  من عاشوا سنة سعيدة كانت بداية  لأوهام كثيرة، حلوة أحيانا ومُرّة في أحايين كثيرة.

لكن الذي كنت أفضله أكثر هو مراقبة حياة الأشخاص  في الواقع، فالواقع ساحر حين يمتلك المرء زاوية مراقبة جيدة أو حين يتوهم أنه يقف في أعلى برج المراقبة، لأن الخيال لا يكون جزءا من المشهد. أصبت بنزعة شبيهة بانحراف جنسي عند من يستمتعون بمراقبة الآخرين (Le voyeurisme)، لكن متعتي كانت تتعلق فقط  بالمسار العام لحياة الأفراد بعد « سنتهم الحاسمة » أو تجربتهم الفاصلة، أعني ضربتهم القاضية مهما كان مصدرها !. حاولت متابعة حياة فتاة عرفتها سنة 2011 منذ لم نكن نملك مكانا لنتبادل فيه الأمشاج الذكرية والأنثوية، غير أن وسيلة المراقبة لم تنجح بحكم أننا كنا جزءا من الضربة القاضية المشتركة، فبحثت عن أخرى وفشلت أيضا في متابعة حياتها الشخصية فيما بعد، ثم أخيرا حصلت على ثالثة تكسب قوتها من أسرّة الرجال المتقدمين في السن، واستطعت مراقبة حياتها بهدوء، موازاة مع قراءة مذكرات « غايشا » أحيانا  ومذكرات الحروب والغزوات من خير الدين باربروسا إلى جنرالات حروب القنابل العنقودية ثم اعترافات المُختلّين عقليا ومجرمو سلاسل القتل والموسيقيون المتعاطون للماريخوانا والحشيش. ثم تابعت حياة ثلة من الأصدقاء وحزنت لحال  من تزوجوا  واكتسبوا  وزنا  ولحال من ظلوا  سعيدين جدا  كما عرفتهم منذ 2011 أو قبل ذلك بكثير.

أظن بعد  بضعة سنوات أن حياة كل شخص تتخذ مسارا ثلاثيا، تتشابك فيه خيارات الحياة مع المحددات الاجتماعية والبيولوجية  مع محدودية الوعي.

 فمن أصبح سمينا  يتزوج، ومن فقد شعره حاول الإنجاب مبكرا، ومن أصابته لعنة الوحدة غير الاختيارية لا يكف عن تكرار نفس الشكوى بصيغ جديدة، خصوصا في ليلة رأس كل سنة والأعياد، ومن اشتغل في قطاع سخيف  يجعل منه عبدا  وجد من تساعده على عبوديته المُختارة، أما النساء  فلم  يكففن عن الشكوى بالرغم من أن الحياة أنقذت الكثير منهن من الزواج، والقليلون فقط  استطاعوا الهرب نحو أوروبا  أو أي مكان لعين باستثناء هذه الحفرة، في حين  استطاع البعض، ممن كنت أظنهم جيدين  كفاية للتحمل، أن ينهاروا في اليومي والعادي و »الطبيعي »، وقد ذاب الجميع بطريقته الخاصة في الحياة، بعد « سنته الفاصلة » طبعا.

تلك السنة الفاصلة لا تتعلق بالحياة، الرقم واحد شيء مزعج في حياة الناس في مجالات كثيرة، كتاب كثيرون  لم يستطيعوا إنجاز شيء يستحق الذكر  بعد  كتاب واحد مُعين، تلك حالة أمبرتو إيكو مع « اسم الوردة » الذي ظل يشتكي منه حتى لحظة موته، هي أيضا حالة كافكا مع « المسخ » وحالة فوكنر مع « الصخب والعنف »…رجال كثيرون ونساء كثيرون التقيتهم في مقاهي ومحطات بعيدة أخبروني عن زواج أول، واحد، لم يستطيعوا القيام بعده مرة أخرى، ضربة قاضية، نساء تحدثن عن محاولة إعادة ليلة الدخلة أو طبخ متقون لم يعرفن كيف ينجزنه مرة أخرى. هناك لعنة تتعلق بالتجربة الواحدة في أي مجال، والتي تكون الأخيرة، في حين يكون ما بعدها محاولات بوليكاربونية فاشلة، أو طعنات دون أهمية في جثة ميتة سلفا، الرقم واحد يقتل الشغف  بسرعة.

ما أظنه هو أنني أعيش تبعات تلك السنة، مثلما يعيشها الجميع. في النقد الأدبي  فكرة صائبة تنطبق على حياة الأشخاص أيضا، إنها فكرة خطاطة النصوص. بحيث تبدأ حياة كل إنسان بشكل ما، ثم يتعرض لحدث مُربك حاسم (السنة أو التجربة الحاسمة) وتأتي بعده نتائج وسيرورات للأحداث تنبثق منه، ثم نهاية لا أحد يهتم لها إلا المراهقون.

ما يحصل طبعا في حياة الناس هو أن الأمر لا يتعلق بخطإ في الاختيار مثلما نعتقد جميعا، لكن هناك  قدر  لعين صُدفوي جغرافيا ونفسيا واجتماعيا  يحسم الأمور  في نقطة ما.  ففي النهاية لماذا  علينا أن نكون نحن في تلك التجربة؟ ولماذا  نلتقي أشخاصا معينين في سنوات مراهقتنا العقلية ؟

لا أظن شخصا يستطيع أن ينكر أنه يعيش  حالتين اثنتين بفضل سنته أو تجربته الحاسمة:

حالة الاجترار الدائم للماضي. ثم حالة مراقبة الحياة والآخرين، سواء مع شعور بالندم أو مع شعور بمتعة إيروتيكية، مثل متعة  الديوث الذي يحب مراقبة زوجته يضاجعها الرجال السود  بأعضائهم التناسلية الكبيرة.  أظن أن لعبة السنة الحاسمة سر من  أسرار الزمن، فإن كان السقوط في الزمن حتميا، فلابد أننا حين نسقط فيه، لا يبقى مكتوف الأيدي، بل يخطط لكيفية اللعب بنا، ثم يقسم لنا المواضيع والأحداث والأشخاص والأشياء وفق تقطيع  خاص بكل شخص، لكنه عام  في سمته الأساسية،  إذ لا يوجد  شخص لم يعش سنة أو يوما أو تجربة أو شعورا  أوحالة فكر ووعي لم  تشكل نقطة نهاية كل ما هو جديد  بالنسبة له، بحيث  يصير  كائنا اجتراريا  لما تبقى من حياته مثل البقرة.  تلك هي فضيلة أن نكون حيوانات أيضا، بالإضافة إلى كوننا نملك الوعي. إنها  فضيلة الاجترار، فضيلة أن نكون أبقارا  عاطفية. فلا أعتقد أن هناك سيناريوها آخر  أفضل من صدمة أو سنة حاسمة أو تجربة مفصلية  ليهدأ الإنسان قليلا ويتعلم الصمت والمراقبة والحياد.  إنها فضيلة البقرة.

 

 

Publié dans الفكر و النفس | Pas de Commentaire »

نهاية

Posté par محمد البوعيادي le 5 mars 2018

 

سيدي أحمد بنحليمة

لم يملك طوال حياته  أي ذكرى عن الماضي، سوى مشهد  في باحة بيت واسع ..بيت يشبه بيوت الأحلام القديمة،  بنيت حيطانه ب »المُقدار »،حيطان  سميكة مطلية بالجير تُسوِّرُ فناء شاسعاً في الوسط، حوله غرف مسقفة بالخشب. مشهد من ذاكرة بعيدة  تختلط  فيها الصور الغائمة برائحة خبز الشعير والنعناع وأذكار الزاوية التيجانية مساء كل جمعة تحت القبة الخضراء، أو في ضريح سيدي « أحمد بنحليمة »، وغالبا ما كان يرافق تلك الصور والأصوات الغريقة شعور بالدفء وبصوت بعيد كأنه ينبع من بئر عميق…ملامح أم من  الريف، حادة الطباع، لكن قلبها يشبه المحيط، وخيال زيتونة بريّة عاقر، طالما سهر تحتها  يدخن الكيف مع رفاق قدامى شردهم الزمان أو سقطوا تباعا  في الموت ..

 

البارحة فقط تمت إقالته على المعاش.

 

بدا  متعبا وكأنه يحمل ثقل العالم على كتفيه،  تورمت أدناه مع مرور السنين، وبدا كأنه مدرك لنهاية ما، لا يخطئ حدسُه حتى ما لا يراه الآخرون: النهايات..

 

في التاسعة ليلا،  بعد أن قضى معظم يومه  بين التردد على الطبيب والمسجد والتحويم حول مقر عمله القديم، عاد إلى المنزل، نظر إلى زوجته، كانت شبه ميتة، بالكاد تتحرك وتنظر إليه بعينين غائرتين كأنهما تتوسلان شيئا. كانت في نظرتها  ملامح وداع مُؤجل..قبّل جبينها وعانقته بقوة، كأن يديها تسمرتا  على عنقه مثل غريق، لم يكن بمقدورها أن تتكلم، لكن نحيبا خفيفا تصاعد من صدرها الضعيف وهي تتمسك به، نظر إليها نظرة أخيرة ملؤها الرضا والعطف ثم انصرف من غرفتها.

 

الأبناء منشغلون بالهواتف والحواسيب، والبنت الكبيرة كانت  بالكاد  تختطف وقتا للأكل من كثرة صراخ رضيعها الصغير. نظر جليا إلى صورة معلقة على الحائط، كان إطارها قد تآكل: صورة بالأسود والأبيض لشيخ كبير كان يخبره أن الموت لا يُخيف الرجال.  حاول أن يحادث ابنته وأحفاده، لكن لا أحد  انتبه لوجوده.

 

خرج من البيت يحمل نتيجة التحليل الطبي الأخير، ووقف على مسافة بضعة أمتار في الرصيف المُقابل، كانت السماء تمطر بقوة في أواخر فصل الشتاء، نظر إلى المنزل الذي قضى فيه أربعين سنة، كانت أضواء نوافذه تغمز في الليل البهيم، تبدو من خلالها خيالات أطفال صغار يقفزون خلف الستائر، لم يشعر  بشيء يشده إلى البيت، رغم وجود أعز الناس داخله، ورغم الأربعين عاما التي قضاها فيه، فانصرف.

 

عبر الممر الطويل نحو محطة الحافلات، كانت المياه  تجرف الحشائش والأشياء وورقة التحليل الطبي، فتطهر المدينة من ذنوبها وتطهره من الخوف، وبدت أعمدة الكهرباء الطويلة وكـأنها تبكي دموعا رقيقة.

 

من نافذة الحافلة  راقب طريقه نحو العمل، أربعون عاما في مكتب صغير مع الملفات والوثائق، رائحة البنزين وصداع السيارات، يتذكر منها  طراز  فورد القديم ثم الميرسيديس 240 التي عمّرت لسنوات طويلة. بدا له في تلك اللحظة أنه أضاع شيئا عزيزا، لكنه لا يعرف ماذا بالضبط. لقد  اعتاد على حياة صغيرة  وسط حشد هائل من الناس، كان يقطع المسافة نفسها كل يوم ذهابا ورجوعا، وكان يفعل كل ما يُطلب منه، لكن بالرغم من ذلك لا أحد يعرفه الآن، حتى أبناؤه. لم  يخرج من ضياع تلك السنوات  إلا بتلك النظرة الأخيرة من زوجته، ترى هل ظلمها يوما؟

 

عند الثانية ليلا توقفت الحافلة بمولاي إدريس زرهون، المدينة الصغيرة، وكان الجو رعديا عاصفا، وما من مكان يذهب إليه، احتار بين قضاء بقية الليل في فندق صغير، وبين التوجه إلى مقهى يسهر فيه شباب القرى البعيدة عن مركز المدينة حتى الصباح، وفجأة سأله شاب يرتدي جلبابا  قصيرا كان يتربص بالنازلين من الحافلات:

 

-        هل تحتاج توصيلة إلى مكان ما؟

 

كان الشاب من « الخطافة »، الشباب الذين يشتغلون في النقل السري للزبائن، بحكم الفقر وقلة الشغل في الجبل.

 

كانت سيارة « البوجو » الزرقاء القديمة الطراز تتضعضع في الطريق، وربما كان الشاب سكرانا، لكنه ظل يضحك ويحكي له عن الطريقة التي تغيرت بها الأمور في القرى المجاورة، وعن صعوبة العيش في بلاد طارت منها البركة.

 

كان الظلام والمطر  يغشيان المكان، لكنه تعرف على منطقة « النّزالة »من خلال الأضواء التي كشفت زاوية أقدم مقهى في البلد. كانت أوراق أشجار الزيتون تعكس ضوء السيارة، فيبدو وكأنها تتراقص على حواف الطريق. لم تمر ساعة  حتى التفت الشاب إليه مهللا:

 

-        « على سلامتك  يا عمّي ».

 

ما إن نزل من السيارة قرب  طاحونة الزيتون القديمة، حتى فغمت أنفه رائحة « الفيتور » (بقايا الزيتون المعصور)، وباغتته الذكريات سريعة مُتسربلة، مطحنة الحبوب وحمار  يبيت في العراء يشتكي من البرد  بنهيق مبحوح، المدرسة القديمة ذات السقف القصديري، والتي لم تعد قديمة. كان  يتلمس طريقه عبر ضوء عمودين كهربائيين أعزلين..لقد حصلت ساكنة القرية على الكهرباء، ولابد أن الماء أيضا  أصبح متوفرا في المنازل، ولم يعد من داع للسقي  في القُلل الجلدية الكبيرة على ظهور الدواب، ولا لانتظار  الدور في سقاية العموم من الصباح إلى المساء.

 

صعد الطريق من قرب المسجد الكبير، ثم سرى بين دروب المدشر، كان يشعر بأن خطواته صارت أخفّ بكثير، وكأن شبابه عاد إليه.  لم يفتح هاتفه،  فطبيعي أن يجد  عددا غير مُتناهٍ من المكالمات والرسائل الصوتية.

 

مر سريعا  عبر الطريق الشرقي للقرية متسلقا عقبة المقبرة، وهناك تبدّى مقام الوليّ الطاهر  سيدي « أحمد  بن حليمة » بقبته الدائرية وحيطان ضريحه البيضاء أبدا، تسلل من قرب الزيتونة البرية التي يُحكَى أنها كانت تُنبت ذهبا في أزمان غابرة، لكنه قبل الدخول إلى الضريح توقف قليلا ليطل على البيت القديم.

 

كان المشهد كأنه تكرار  لمشاهد حصلت قبل خمسين عاما وأكثر، لا شيء تغيّر  في المنزل، باحة البيت تبدو من أعلى تلة الضريح، شجيرات  صغيرة تنمو وسط تلك الباحة، وأعلى سقف البيت الكبير  تمتد عروش كرمة عملاقة لا أحد يتذكر  تاريخ وجودها هناك، في فصول الصيف البعيدة كان  ينام  تحتها فوق السقف، تظلله من الحر  ويأكل  رفقة إخوته الخمسة من تينها. دلف إلى الضريح  فوجده مفتوحا  مُضاءً  بالشموع وفي جوانب القبر سلاسل من حديد وبعض المسبحات  ودراهم منثورات هنا وهناك  وبعض السكر والتين المُجفف.  شعر بالجوع فتناول التين المجفف وشرب من قربة ماء خزفية، ففغمت رائحة الطين و »القطران » أنفه، تلا  بعض القرآن  ثم  نزل حدوا  نحو  الزاوية التيجانية.

 

كانت  أضواء  القبة الصغيرة تبدو من أعلى التل قرب الزيتونة السحرية.

 

وصل مع وقت الفجر، وبرغم الأمطار اجتمع نفرٌ من الرجال للصلاة. لم يتعرّف عليه أحد ولم يتذكر أحدا، خاصة وأن الظلام  كان يغشى محراب الزاوية الصغير وماتلاه، صلّى الفجر ودموع مفاجئة  تغمر  خدّيه، كان في صوت الإمام هدوء وسكينة تشبه سكينة الجبل، صوت رخيم  ردّه ستين سنة إلى الوراء، بالضبط إلى رخامة  صوت الفقيه الذي درّسه في الكُتّاب..بعد انتهاء الصلاة جلس رفقة  ستة من الرجال وردّدوا  ما استطاعوا من الوظيفة التيجانية فانشرحت القلوب وعمّ الجلال قبة المقام، وحين وصل إلى صلاة الفاتح  لما  أُغلق .. »اللهم صلّ على سيدنا محمد الفاتح لما  أُغلق والخاتم  لما سبق، ناصر الحق بالحق… » امتلكته رعشة  لم يدرِ إن كان سببها  البرد أم الصلاة أم الماضي البعيد، ولعله  تذكر وجه الشيخ « سيدي الهاشمي »، الفقيه الذي كان يعلم الصبيان ويعلم أهل القرية أخلاق الطريقة الصوفية، والذي كثيرا ما رافقه  وتعلم منه العفة والصبر.

 

لم يشعر  بقدميه إلا وهما  تسابقان وقع المطر على الأرض في اتجاه المنزل. كان رفقة بعض إخوته  يتكفلون  بإصلاحه في زيارات عطل الصيف.

 

وقف أمام الباب الخشبي القديم، لقد اهترأ كاملا، لكن الخُرص الحديدية لازالت صامدة، والمسامير الكبيرة سندته طوال السنين، لم يتم  تغيير القفل، استخرج المفتاح العتيق الصدئ من جيبه ودلف إلى الداخل.

 

بدا  له كأن أمه واقفة قرب المطبخ، وتخيّل  أباه  جالسا  في ركن صغير قرب بيت « الخزين »  يمرّر مسبحته الخشبية بين الأصابع، وقرب مربط الحمير تبدّت له صورة صبية وصبيان حليقي الرؤوس يلعبون بكرة محشوة من الصوف وبقايا أثواب..لكن بصره عاد إليه في ظلام البيت، فحاول إشعال الكهرباء لكن يبدو أنه مفصول.

 

مرّ إلى الغرفة الكبيرة، واستخرج  قنينة غاز من تحت مصبطة خشبية قديمة، ثم أوقد  فنار الغاز القديم المعلق على الحائط، تحسس كل أثات البيت قطعة قطعة، حتى حجر التيمم الذي كان الحاج أحمد  يتوضّأ به للصلاة، تجول في غرف المنزل، من بيت « التخزين » إلى بيت الطبخ على النار بأعواد الزيتون (الكانون)، ثم توقف عند المدود (مربط الدواب)  قليلا.

 

وعند  بزوغ أول إشارة ضوء صعد إلى سطح البيت وجلس  قرب الكرمة الكبيرة ، ثم مدّ بصره نحو صفوف الزيتون والأحجار، وبيوت الجيران الذين ماتوا والذين هاجروا القرية، ومن مساحات كبيرة شاهد  الجنان الصغير الذي قضى فيه نصف حياته، جنان صغير من الزيتون وشجر الخروب وبعض أشجار اللوز، فتذكر الحافّة وجني الزيتون والخرّوب والكُبّار الشائك..وتذكر  الأيام البعيدة التي جمعته بأخواته وإخوته، وتمنّى لو يجتمعون مرة أخرى ويعيشون جميعا على ذكرى الأم محجوبة ووقار الحاج أحمد ..وأبعد من الجنان شاهد السد العملاق ومياهه الزرقاء التي تشبه مياه البحر، وتذكر  كيف كاد يموت هناك…ثم تذكر أول حبّ وآخر مرّة شاهد  فيه أباه، فاحتضن صورته التي أخذها من حائط الغرفة، وترقرقت  عيناه بالدموع  حين  بسطت الشمس سلطانها  على صفوف الزيتون وسطوح المنازل القديمة، آنها  بدت الزيتونة البرّية وكأنها تلمع بقطع ذهب عوض حبات زيتون رقيقة …

 

حين انجلى ضباب الصبيحة، كان ممسكا  بمسبحة أبيه، موليا  بصره نحو القبلة، ولم يكن لقطرات الماء التي تتساقط من أوراق الكرمة المُباركة أو تُوقظه.

 


 

Publié dans القصة القصيرة | Pas de Commentaire »

العدمية والدعارة

Posté par محمد البوعيادي le 25 janvier 2018

_113181_mag

في  شتاء 2013 كنت أشاهد شريطا سينمائيا  لا أتذكر منه سوى لقطة واحدة:  شاب  ألماني من العرق الأبيض، فقد كل روابطه بالحياة الاجتماعية، يتصل بالهاتف، ثم يستضيف عاهرة  لربع ساعة، لا يسمح لها بالدخول، تقف مقابل باب الشقة، يطلب منها ألا تنظر إليه، ينيكها وقوفا  بسرعة، ثم يدفع الثمن في ربع ساعة وتنصرف.

بعد ذلك  شاهدت كريستيان  بيل  في الشريط السينمائي « الآلاتي » The Machinist  يعاني من أرق الضمير، يقرأ دوستووفسكي، يقضي حياته كلها مستيقظا دون قدرة على النوم، بسبب جريمة ارتكبها ونسي الأمر، لكن ظل ضميره متجسدا، لم يجد راحته إلا في ساعة أو ساعتين يقضيهما رفقة عاهرة طيبة تعد له القهوة، ولا يسألان عما بعد ولا قبل..

في شريط  « سائق التاكسي «   Taxi driver  1975 لمارتن سكورسيزي كان  دي نيرو  رجلا مختلا  خارجا من تجربة حرب أفقدته كل روابطه بقيم المجتمع الأمريكي المعاصر المريضة، يجول الليل كله سائقا لسيارة أجرة بحثا عن امرأة حقيقية، لكنه فهم أن العاهرة هي الصفة النهائية، واللواتي يأخدن المقابل لم يسخرن منه على الأقل كما فعلت الفتة « المحترمة »،  بتلك الخلاصة سيندفع وسيلتقي بالطفلة  جودي فوستر  في  دار دعارة لتنتهي القصة بالرصاص والحقيقة.

في شرائط  أخرى وكتب حول المقدس والجنس ..كان واضحا أن  هناك رابطا بين الدعارة والعدمية من جهة وبين العقائد الثابتة والحب من جهة مقابلة.

ودلك باعتبار أن الدعارة  تحويل  صادق لدافع الجنس خارج  أنظمة المعنى  التي تفرضها  الثقافة والاحتياجات التنظيمية للمجتمع. تلك الاحتياجات المصلحية الضيقة التي اخترعت الحب والزواج.

هناك مثلا  أنكيدو  في ملحمة جلجامش، كانت العاهرة هي معبره نحو النقاء. نحو الرجولة كما يقول نص الملحمة، فالآلهة اشترطت العبور بين فخدي العاهرة المقدسة، للمرور من حالة الحيونة إلى حالة الإنسانية، حالة القداسة.

لكن الدي حصل، عبر تاريخ من التراكمات، هو أن كل الأنظمة المحتالة التي اخترعتها الطبقات  المسيطرة  سياسيا واقتصاديا داخل كل أشكال  المجتمعات، جعلت العهر يتخلص من نقائه وصفته الطبيعية، ليدخل في حيز خطاب أخلاقوي مزدوج، فهو ضروري  كمشروع اقتصادي للأسياد، وهو محرم  لأنهم في حاجة لنساء ونسل  يعتبرونه « نقيا » ..أو  حرام  لكي لا  يستفيد منه الجميع بيولوجيا، لكي لا يمارس الجميع حيوانيته الأصيلة، فيظل نطاقا للاتجار والأرباح.

لقد أفدست الأديان والفلسفات والقوانين ومنظومات التشريع حقيقة الدعارة، فسقطت طبيعة المرأة الحقيقية من الاعتبار وأقنعوها بالعكس …فلا هي استطاعت التخلص من طبيعتها، ولا هي ظلت بوعي نقي ومطابق للغريزة والطبع، لقد خلقوا بلبلة في نظام فهم الجسد، وأغرقوا  التاريخ بالكدب …لكن كل العدميين عبر التاريخ  فهموا هده الواقعة.

يفهم العدمي أن  المرتكزات الثلاثة التي يتأسس عليها الموقف اللاأدري من الوجود  تقود إلى توصيف وممارسة جنسية خاصة، ممارسة  تقع  خارج  نظام المعنى والدجل الديني والفلسفي والقانوني.

إن عالما لا يملك غاية  في داته .

عالما  لا  يتحمل المزيد من الإنجاب والتناسل.

عالما  لا حقيقة مطلقة فيه سوى ما يصنعه الإنسان بمصيره.

عالما  يمكن تجاوزه .

لا يمكن  إلا أن  يدفعنا للنظر بمنظار عار  لعلاقة الرجل والمرأة، إنها في الأصل علاقة دعارة  إدا استعرنا مصطلحاتهم. فمن يتزوج وينجب من امرأة مقابل الأمن والحماية الاجتماعية، لا يختلف من حيث المبدإ عن الدي يمارس ما تفرضه مصيدة الغريزة دون أهداف اجتماعية، ومن يقع ضحية الإيمان بخزعبلات التراكم الثقافي كالحب والخطاب السطحي المنافق، لا يختلف عمن  ينظر إلى الأشياء  بعين الواقع.  إن الحقيقة أو اللاحقيقة بخصوص علاقاتنا الدبقة، والتي فرضها سياق بيولوجي فوقي  قاهر، تتساويان من حيث القيمة.

لدلك  فالعدمية والدعارة، هي المقابل الموضوعي للعقيدة والزواج  ومشتقاته الثقافية مثل الحب والفضيلة والإخلاص وكل اللائحة الوهمية.

لكن نقطة مفصلية واحدة  تميز بين النظامين: المباشرة والواقعية.

إن كل تزويقات القانون للزواج والحب اتصلت بمصالح طبقية ورغبة في استمرارية لنظام استهلاكي معين في ظل الأسرة.

في حين  لا  تستهدف وقاحة الفكر العدمي أي ربح مادي لأي طبقة، ولا لأي شخص من خلال اعتبار الدعارة هي حالة الطبيعة في العلاقة بين الرجل والمرأة، إنه مجرد توصيف بارد وواقعي لما تم إخفاؤه عبر تاريخ طويل من الزيف والكدب.

Publié dans الفكر و النفس | 7 Commentaires »

.. »نقد ديكتاتورية الحياة « الطبيعية

Posté par محمد البوعيادي le 13 décembre 2017

 

 24232643_1630220980369038_1499167112994184445_n

يطرح السؤال دائما:  لماذا لا تنتحر إذا إن كنت عدميا؟ لماذا  تكتب عن الحياة بشكل عام وأنت ترفضها؟.

يفترض هذا السؤال من طارحه أنه يشعر بامتلاك  الحياة فعلا!  يشعر أنها أمر يخصه ولا حق لأحد بالخوض فيه أو مسه بسوء لا نظريا ولا ممارسة !، إن هذه الوثوقية خطيرة وغير نقدية بالمرة، فمرض عضال مثلا يمكن أن يجعل هذا الشخص ناقما على المبدإ الحيوي الذي يجعل خلاياه حية وجسده يتعذب لوقت أطول، حيث ستبدو له كل دقيقة من « الحياة التي وهبها الله له » تعذيبا مقصودا. لذلك  يمثل هذا النمط من الكائنات الحية نموذجا للبقرة الضاحكة. أقصد الإنسان الذي يعيش طويلا ليندّد  بالانتحار والإلحاد والمثلية الجنسية وحرية التعبير والفيزياء التي لا تكشف حقائق هلوسات صحراوي من عصر الرمال ! الإنسان الذي صارت عنده الحياة عبارة عن علبة سردين لا يهم منها إلا تاريخ الصلاحية، بمعنى آخر، الإنسان الذي يعتبر الحياة معطى بديهيا، وهو أكثر الناس سعادة، سعادة وقردانية أيضا. الإنسان الذي قتلته السعادة وجعلت وجوده ميكانيكيا لا تشوبه شائبة. فاعتبار الحياة معطى طبيعيا وبديهيا « يجب » أن نتعامل معه وبه وفيه  بشكل « خاص » عبر « كاطالوك » جاهز، أمرٌ يصعب على أي عقل نقدي شكّاك أن يتعايش معه.

يذكرني السؤال بسؤال آخر كان – ولازال- المؤمنون بعقيدة ما يطرحونه عليّ حين  كنت أخوض في نقاشات بيزنطية تافهة لمحاولة  إقناع مجموعة من الأبقار بأن « عادات قبيلتهم  ليست قوانين كونية »، وهو سؤال: إن لم تكن مؤمنا  لماذا لا تنكح أمك وأختك؟. أو: لماذا لا تؤمن بالدمقراطية أيها المتخلف؟ …إلخ

لسنا نتحدث هنا عن رفض الحياة.

أقصد  الحياة بالألف واللام  لم تكن يوما هي المشكل.

المشكل قطعا في صيغة معينة للحياة، في تطبيق تاريخي للحياة مع كائنات لافقرية تجعل تجربة الوجود مليئة بالمضايقات. أعني  يصبح واجبي  كأي شخص فهم أن الأمر لا يتعلق بمجرد الفهم، أن أرفض بدافع نفسي ومعرفي وأخلاقي (لا أتحدث عن أخلاق المكابيت هنا). أن أرفض حياة الأيام التي نعيش فيها.

حياة بطابع  سريع، تخطيطها القلبي معروف، ومشهور في كل حانة ومستشفى ومنبر مسجد. حياة المًلصقات الجاهزة والتعصّب والرّتابة القاتلة:

اِحصُلْ على  بيت وسيارة بتقسيط  ثلاثين سنة، على أثات، تلفاز خصوصا، ملابس أنيقة، ساعة جيدة، صلّ للرب، تزوّج قحبة « شريفة »، ليكن لديك أطفال وبقرة ضاحكة تنتظر عودتك  من العمل لتسمم ما تبقى من غدد  وجهك السليمة وخلايا مخك  التي نجت من التبخّر في العمل والمقهى والشارع.  ثم  حاول بعد  ذلك  إرضاء العائلة والوالدين وأستاذك ورب عملك، والشارع والجيران والحكومة وكائنا متخيّلا يعتقد مليار مخبول بأنه يخطط لنا مسارنا من المطبخ إلى المرحاض، ثم قطعا يجب إرضاء دببة القطب الشمالي المتجمد (لماذا يتم استثناؤها ظُلماً من حِصص الإرضاء) !

إن فكرة  السعادة  المرتبطة بشراء غسّالة أوتوماتيكية من ماركة جيدة  فكرة وليدة زمن جديد، وليست  أمرا راسخا في أعراف ممارسة الحياة، أعني هناك نسخة إلكترونية للحياة في أيامنا هذه، مرتبطة بالسرعة والماركة والأشياء التي لا فائدة منها، أي الموضة والعادة وصورتنا أمام الآخر  والتي تتجاوز احتياجاتنا الأساسية.

لنتخذ  على  سبيل المثال فلانا نموذجا، أقصد به شخصا  قد يعرفه أيٌّ مِنّا، وهو مثل الجميع  يمثل ما تسميه سلطة  المجتمع الخفيّة واللاواعية « شخص طبيعي ».

اراقب حياة « شخص طبيعي » من بعيد منذ عرفته، وهو حصل على « كل شيء » في الحياة بمجهود خرافي جعله يفقد ابتسامته، بما في ذلك غسالة أوتوماتيكية وتلفازا من حجم كبير لا يفوت الفرصة ليذكرنا بعدد بوصاته، ولكنه لا يجد  نصف ساعة ليفعل شيئا « يحبه »، إن الأشياء التي عليه أن يفعلها موضوعة بترتيب  صارم  ضمن جدول زمني لليوم:

ثمانُ ساعات للعمل، تسع ساعات للنوم، ساعتان للأكل والدردشة حول ما يجب وما يمكن اقتناؤه، نصف ساعة لمضاجعة ميكانيكية متكررة ورتيبة مثل أفلام البورنو الرخيصة (وقد اشتكى فعلا من ذلك)، ساعة لمشاهدة أخبار في تلفاز  لم يعد يعرض  سوى أشكال قتل الناس لبعضهم البعض منذ ستينيات القرن الماضي، ساعة للتبضع وشراء الحفاظات ومستلزمات البيت، نصف ساعة لفعل أشياء يومية،ساعة للصلوات المتراكمة، وساعة للندم  يوميا  على اختيار حياة مماثلة، وفي بعض الأحيان يكون عليه التنازل عن حقه في الندم  ليسمع أسطوانة معروفة لبقرته الضاحكة المولوعة بالشكوى والبكائيات أو  لحمل رضيع يبكي ويتبرّز عليه.

إن فكرة  « حياة طبيعية » هي ما أرفضه. لأن ما  يصير « طبيعيا » يعني أنه أيضا  يصير جامدا وديكتاتوريا، ويحصر تجربة الحياة في سلوكيات راسخة ومخطط لها، ومعروفة سلفا، يعني القتل البطيء لفكرة الحياة نفسها، لأن الحياة  كان من المفترض – رغما عن  كونها صدفة – أن تكون تجربة متنوعة، تخضع لبوصلة الشعور والوعي والإحساس وفضول التجربة،وهي بوصلة لا تهدأ ولا ترتبط بشمال أو جنوب ..أي أن تكون الحياة سفرا  دائما وعزلة واختيارات قابلة للتراجع عنها وإلغائها أحيانا.

لتبسيط الأمر، ليس الموقف العدمي سلبيا من الحياة، لكنه ضد « نسختك أنت من الحياة ». فقط.

فهو ليس « عدميا »  إلا لأنه موقف نقدي  راديكالي  رافض دائما  لأشكال  التعليب والتحديد والنمذجة، وأشكال النمذجة والتصنيف والتحديد  تتحقّق دائما بشكل دوري في كل نظم التاريخ والحياة. لذلك  قدر أي شخص يدركُ هو أن يرفض دائما، أن يعيش الرفض حالة ديمومة، رفض الأشكال التي تتبلور، التي تصير نماذج، وهكذا  فهو ليس  رفضا للحياة، بل  رفض من أجل الحياة. وحياة « العدمي »  هي الرفض دائما وأبدا، فغياب المعنى والخوف من السقوط في فخ العادة  والتورط في الأشياء المجانية هو ما يفرض  حالة استنفار الوعي الدائمة.

الرضوخ العفوي لبرنامج الوجود داخل مجتمع شبيه هو المرفوض، وليس الحياة، لأن الحياة في المجمل الأعم معطى غير إرادي، إنها تحديد بيولوجي وأسترولوجي مادي وزماني خارج عن وعي الإنسان، لذلك  لا تعتبر موضوعا للقبول والرفض في حد ذاتها. ولا يعتبر من وجدوا فيها محظوظين أو غير محظوظين كما يقول المثال الشهير: لقد كنت حيوانا منويا بين الملايين، لكنك وصلت أولا في السباق نحو البويضة.

إن حياة عادية و »طبيعية » هي المقابل الموضوعي لطغيان الرتابة والملل.وهنا تصير التجربة التي منحتها صدفة الوجود  وكرمُ العدم ، تجربة مهدورة، فالهدر الإنساني ليس سوى الخضوع لخماسية الرعب: العادي، الطبيعي، النمذجة، الإرضاء، الانتماء.

والشرط الإنساني المفترض في الوعي النقدي، لا يتحقق في حياة طبيعية، بل في حياة متخيّلة، حياة المثال ضدا على عالم الكون والفساد  بلغة أرسطو.  بالرغم من أن خطابه كان نقيضا للديونيزيسية التي  يدعو إليها العدميون الإيجيابيون أمثال نيتشه.

إن نقد  « الحياة »  بهذا المعنى، هو نقد « الدوغما Dogma » في كل تجلياتها: العقدية والاجتماعية والفكرية والحياتية …وما يبدو نزعة تشاؤمية ، هو تشاؤم طبيعي، لأنه إفراز لأزمة تاريخ الإنسان الدائمة: أزمة خلق الآلهة والنماذج والأمثلة الجاهزة.

وإنّ الحياة العامة كما تقدمها لنا قنوات  التواصل العالمية الآن، بدءا من الشكل الذي اتخذه التنظيم الاجتماعي انتهاء باللغة، والأسرة والمؤسسة والحفاظات بثمن أقل، ليست سوى نسخة من واقع يوجد واقع مُتخيّل يتجاوزه، أي إنها دائما ستكون « كائنا » يعوقُ « الممكن » ويقف في وجه ازدهاره وتبرعمه.  لذلك  من الطبيعي  أن أرفض الحياة: الأسرة – الإعلام – العقائد – نسخ التاريخ المختلفة – العمل الاضطراري – فخاخ اللغة والقيم الجاهزة – الطموح …انتهاء إلى رفض الولادة  بمنطق « من مساوئ أن يُولد الإنسان ».  لأنه لا توجد  نسخ أفضل، وإن كانت فستتحول مع الزمن  إلى  نماذج  جاهزة ..تلك هي اللعبة.

 

 

 

 

 

 

 

Publié dans الفكر و النفس | Pas de Commentaire »

علاقاتٌ دَبـقة

Posté par محمد البوعيادي le 4 septembre 2017

 2128412-KDVITNDG-7

موجز العلاقات الإنسانية الآن :من ينكح الثاني أولا، أو من يكون الأسخف من الثاني؟

لا أعرف منذ متى وأنا أفكر بهذا اللامنطق، ربما منذ سنوات قليلة، لكنه كان يتراءى خلف غمام اللاوعي، ما جعل كل محاولاتي التافهة السابقة في نسج روابط معينة تتسم بطابع السذاجة والعنف اللفظي غالبا، لقد أرهقت نفسي وضيعت رصيدا نفسيا مهما حين لم أكتشف المبدأ اللامنطقي الذي يثوي خلف علاقات الجيل الجديد إلا متأخرا: سعار الرسائل القصيرة والاتصالات الليلة وصور الأكل المقلي بكثير من الزيت في المطاعم الزجاجية المبهرجة، والعزومات في المقاهي، والتسوق لارتداء ملابس داخلية تحمل أسماء شهيرة كتبت مباشرة فوق المؤخرة، تكبير المؤخرات وطلي الوجوه ونفخ الشفاه والبحث عن تشوهات تتبع الموضة بحذافيرها، الابتسام للصور، فوق مصبطات الرقص، في دورات المياه والمراحيض في المساجد في الغرف المغلقة، تحت أغطي الغرباء، في مقاعد سيارات الكراء اليومي، وكله بمال لا يملكه المرء، لحياة  يتمناها، بالرغم من فراغها وخفتها وسخافتها…

ورغما عنّي أعيش ككل الذين يعيشون في الظل، ضمن  الغول الذي يلتهم الجميع: الوقت. الزمن الذي يرتبط دائما بالجدة والموضة، ويترك خلفه رماد وأدخنة الماضي والأجيال السابقة، وهو دائما زمن بطيء على من يعيشون في الهامش وسريع على السعداء الذين يعيشون سعاداتهم على قدر المقاس والذوق العام، الذين ينخرطون بسرعة، فيستهلكون علاقاتهم بالآخرين مثلما يستهلكون المكياج والملابس والبطاطا المقلية وفيلترات السجائر…

لم أعد قادرا على مجاراة من أعرف، وبما أن القدرة الديناصورية على مجاراة الآخرين صفة إنسانية ضرورية لتستمر الحياة الاجتماعية، فإنني لم أعد قادرا على أن أحيا حياة « طبيعية »، لم أعد ديناصورا اجتماعيا منذ سنوات المراهقة (هكذا بالصدفة بدون تفكير ولا ملل من الناس ولا أي شيء)، وهكذا صارت العزلة غير اختيارية، وغير « مُخترعة »، لا يشلّني الأسى ولا تعتريني أية مرارة، لا من فقدان القدرة على التعاطف ومعرفة الآخرين ولا من فقدان القدرة على تحسين الذات، بل وعدم اعتبار ذاتي بالمطلق.  إني أعيش منذ زمن في سديم لامبالاة طريفة ومُسليّة وغير مأساوية على الإطلاق، ولكن دون أن أستقيل من احتياجاتي البيولوجية، وهذا بالضبط ما سيكون غير محبب عند بضعة نفر من الناس الذين عرفوني ، بدءا من الأم التي فقدت أملها في رؤية أبنائي كما تقول لكنها تستمر في رؤية وجهي بشكل مستمر، انتهاء بأعز صديق كان لدي وبعض الفتيات، خصوصا اللواتي وضعنني كبديل لعشيق أناني وسيم أو كمشروع غطاء اجتماعي من أعين الناس (يا لبساطة التفكير!)، لقد فقدت علاقاتي الاجتماعية لأنني غير قادر على الكذب (كما يهيّأ لي)، وما أنا مستمر فيه ليس سوى إكراهات فرضها الماضي أو الحاضر بصيغة من الصيغ، أعني ما نلتزم به بدافع غريزة البقاء، فيورطنا في الآخرين ومعهم: علاقات الخبز وعلاقات الضمير الأخلاقي. وكلاهما قاتل. فاتورة أن لا يختار الإنسان شكل الحياة التي يريد قبل الخروج من ظلام المشيمة: (مأساة الولادة)، تلك الفكرة القبيحة المشؤومة التي صدع سيوران أطيازنا بها، والتي، للأسف، تعبر عن كل شيء في كلمتين.

 وإن كان المرء « صادقا » فعلا فعليه أن يكون وقحا أيضا، لا بدافع التكبر ولكن بدافع الحقيقة، حقيقة أن العلاقات كلها مفروضة من الألف إلى الياء، من أبسطها إلى أعقدها، ولو أن العلاقات المعقدة أصبحت عملة نادرة منذ أصبح التواصل غير المباشر سهلا، وبعرض كل التفاصيل ومناقشتها قبليا …

وما يفرض العلاقات الدبقة، اللزجة، السريعة التحضير، هو كونها علاقات تتسم بطابع الجيل الجديد، والعصر الجديد، عصر السرعة، في حين لا يفضل الهامشيون أي حديث ما لم يكن حول الغبار النجمي ووزن مخ الأنواع المختلفة من الحشرات، أو بعض الأفكار المريضة التي يجدون تسليتهم فيها، والتي غالبا ما تتسم بالشتم والسب والرفض ومتعة الهروب والمكر اللغوي والتفاخر حول معرفة أنواع الموسيقى والكتب التي يعلوها الغبار، أقدمها وأجودها  بالخصوص، وكل الأشياء التي لا تحصل بسرعة ولا تتطلب انسلاخا من حقيقتنا المريعة، حقيقة أننا نتحدث لا لنسكب أنفسنا على الآخرين كالماء الساخن ونفرض وجودنا الثقيل وغير المهضوم، ولكن لنقتنص فكرة أو مقطوعة أو اسما نبحث عنه في ما بعد، لا لشيء، إلا للمتعة الشخصية، التي تجعل خطيئة الحياة أقل وطأة، لنكون في حدود ما يريد الذي في داخلنا، لا الذي « يجب » أن يكون كما درسونا في المدارس والقنوات التلفزية وأغلفة المجلات ومجالس المقاهي والحمامات ..

إن نسج علاقة إنسانية الآن من أي نوع يعتبر عملا غير مسؤول تجاه الذات، عملا صبيانيا جدا، إذ  لا يختلف اثنان على أن بقاء المرء وحيدا واستمتاعه بالعزلة والكسل والقبح شيء مفيد للصحة  وللجسد والعقل والروح والآخرين وكوكب الأرض عموما. كما أن الرفقة الجيدة من صداقة وحب وتواصل كيميائي بلا هدف، يمكن الاستغناء عن جانبها القبيح المرتبط بالتمثيل وتزوير الذوات لنيل إعجاب الآخرين، وذلك بحصر العلاقة بالآخرين، عبر قناة المال: المال مقابل الخدمات البسيطة، المال للأكل الجاهز، المال لكي الملابس وغسلها، المال للجنس، المال لشراء أي شيء، المال للتخلص من أي موقف، إن العلاقة الصحيحة إذا هي علاقتنا بالقيمة المادية. وقد كان الأمر كذلك منذ فجر التاريخ، لكن الإنسان  يملك خصلة لا تتوفر لدى القرود وباقي الثدييات، وهي أنه يحب أن ينافق، النفاق سلوك إنساني صرف. وهو ما جعل العلاقات الإنسانية تستمر في الانحذار نحو هاوية التزوير  دون أن ينادي أحد بوقف كل هذا الهراء ، النفاق هو ملخص تاريخ البشرية منذ حواء وآدم (مجازا). ولكن بعد كل ما عاشه البشر من حقائق حول رعب ذواتهم: حروب نووية وقتال في كل شبر ألا نستحق كافراد – على الأقل- أن نكون صريحين قليلا بخصوص شيء بسيط  كضرورة أن تسقط الأقنعة؟ 

علاقاتنا الدبقة مجانية.  هذا ما أريد قوله باختصار، إذ يمكن لشخص يعيش وحيدا أن يحقق كل شيء يريده في حدود الإمكان دون أن يضطر  لرؤية  أسنان صفراء تبتسم بحكم العادة كل مرة، كما أنه في غنى عن سماع الأناشيد الطويلة والملحمية عن إنجازات كائنات فاشلة في يوم شبيه بكل الأيام التي مرت على مجرة درب التبانة. وهذا الشخص (الذي هو كل واحد منا) سيستمتع بلامعنى الحياة أكثر إن استطاع أن يواقف الغريزة الإنسانية في أن يشعر بالراحة والسكينة الداخلية، والتي لا تتأتّى دون التخلص من الجميع.  ألم يراودك حلم خبيث  يوما ما بأن أفراد أسرتك توفوا جميعا؟ ثم بقيت وحدك حرا من كل شيء؟ طبعا راودك ذلك التخيل المخجل، وهو في النهاية ليس سوى تعبير عن كرهك للعلاقات الإنسانية وليس عن كرهك لأسرتك وعدم حبك لهم، إنها حقيقتنا، لماذا علينا أن نزوق نزواتنا البيولوجية وحاجاتنا المصلحية دائما بعلاقات تشبه المخاط؟  ما الذي سيخسره المرء إن قال ل »صديقه »: احضر لي هذا الشيء، وفي المقابل سأحضر لك الشيء الذي تريده، ثم لا تتصل بي، فأنا لا أعرفك ولا أريد أن أعرفك.  أو أن تقول امرأة لرجل: تهمني قطعة اللحم والعصب التي بين فخذيك، ثم لا تتصل بي، لا ترسل وجوها إلكترونية صفراء بلهاء. 

نستثني إذا العلاقات القبلية على الوعي، علاقات الدم والقرابة، في إطارها الضيق (الأب والأم والإخوة) ما تبقى يمكن ركنه في أقرب قمامة، للتخلص من اللزوجة والشكل الدبقي للحياة اليومية، إلا إن كانت مفروضة بحكم قوة الأشياء، فلنلجأ ساعتها إلى السخرية إذا ..

Publié dans الفكر و النفس | Pas de Commentaire »

123456
 

Perse |
POIUR L'AMOUR DES LIVRES |
lacoste homme,lacoste femme |
Unblog.fr | Annuaire | Signaler un abus | Lit et rature
| Contesgothique
| Lesmauxdemma