حكمة الصرصار
Posté par محمد البوعيادي le 14 décembre 2018
قرابة الفجر ولم أنم بعد، وبجانبي بقايا نبيذ وسجائر مطفأة في وعاء بلاستيكي تنبعث منه رائحة احتراق خانقة، فتحت باب المنزل على مصراعيه وجلست أراقب سكون الليل في قرية ميتة، لا يظهر لي من بعيد سوى أضواء منازل متواضعة متفرقة وأشجار بلوط اغتالها الظلام تبدو مثل فواصل ونقط ترقيم فوق الجبل الصغير، وفي الداخل تنبعث موسيقى قديمة سكرانة، لم يكن لدي في الليل أي رفيق، فالجميع نائمون أو مستغرقون في أجسادهم العرقى. فرغت قنينتي لكن رأسي امتلأ.
لم يكن أمامي وأنا جالس على عتبة الباب سوى مشهد القمر منتصفا في الغيم، حيث تبدو السماء كئيبة، وفي مشهد مهيب من السحب الرمادية التي تتشكل على هيئة حيوانات أسطورية، قفز صرصور اتجاه قدمي ووقف. كان يبدو مثل تنين ممسوخ، ربما كان يفترس الذين يشعرون بالملل في زمن سحيق.
في لفافة المكسرات، كنت قرأت قبل سنوات طويلة أن الصراصير نجت من الإشعاع النووي في هيروشيما ونكازاكي وتشيرنوبيل أيضا، لكنها لم تنج من فضول البشر.
ومن شدة الدعس والمطاردة خلف الصناديق وتحت الأفرشة وفي العليات، تعلم الصرصار بعض الدروس، وبإمكانه أن يعلمها للبشر كي يصمدوا أمام الخطر المحدق بهم، خطرهم على أنفسهم.
الدرس الأول، هو محاولة تجنب أذية من لا يخافون ولا يملكون شيئا.
لذلك يهاجم الصرصار النساء دائما، فهن الكائنات الوحيدة التي تخاف من إفساد تصفيفة شعر أو عطر أو كسر ظفر، الصراصير تحب إزعاج الكائنات البلاستيكية المنافقة فقط، لكنها تخاف من الكائنات العفنة (الرجال)، الرجال دائما عفنون، حتى أولئك المتأنقين من المراكز الحضرية، سرعان ما يعودون لحالة العفن حين ينتهي اللقاء وتحزم المرأة حقيبتها لتعود أدراجها. ستجد قشور الليمون والملابس الداخلية المتسخة، قناني النبيذ الفارغة وأعقاب السجائر في كل مكان إذا فاجأت رجلا بزيارة دون سابق إنذار، وطبعا ستجد الصراصير، فهي الصديقة الأزلية للرجال، غير أن العفن قد يكون داخليا، من منا ليس متعفنا من الداخل في زمن الصراصير؟ لا يستطيع أحد ادعاء العكس، إلا أن كان قد تخمّر من الداخل فعلا. يجب تجنب من ليس لديهم شيئا ليخسروه، في الواقع يتجنب الصرصار الجميع، من الجيد تجنب الجميع، حيث يفوز الكل، إن لم يفوزوا بشيء مادي، لا يخسرون الهدوء على الأقل.
الدرس الثاني، لا تظهر للعلن إلا في حالة اضطرار.
تظهر باقي الحشرات دوما في اختيال، يمكن للذباب أن يزعجك طوال اليوم، وبالرغم من ذلك لم يشتهر كحشرة كريهة بقدر ما اشتهر الصرصار، بالرغم من كونه حشرة خجولة. أفضل أن يكون المرء صرصارا على هيئة غريغور سامسا على أن يكون ذبابة اجتماعية متأنقة تحط على جسد الناس في كل وقت دون سابق إنذار، ما الذي فعله سامسا حين اكتشف أنه صرصار عملاق؟ لم يقدر على فتح الباب، ظل مختبئا لمدة طويلة جدا، تلك حكمة يمكن فعلا أن تؤدي إلى عدد قليل جدا من الأضرار الاجتماعية في مجتمع من الذباب.
لا يوجد درس ثالث محتمل سوى الفرار.
على المرء أن يفر دائما، أن يفر من كل شيء، من الأشياء التي لا يحبها ومن الأشياء التي يحبها، من الأشياء المخيفة وأكثر من الأشياء الباعثة على الاطمئنان، لأن هناك غلافا زهريا حول قنبلة. هناك دائما طلاء براق خلف الأشياء التي تقتل الإنسان، وغالبا ما تبدأ بشكل مفرح، مثل الأصدقاء والربح والحب والعائلة والاندماج في شيء معين، مثل حزب أو نقابة أو جمعية من المعاقين ذهنيا، على المرء ألا يخجل من عبارة : لقد فر كالصرصار. طبعا لقد فر كي لا يتم سحقه بحداء براق. يتوقعون منك دائما أن تتحمل مسؤولية زائفة ألصقوها بك زورا، يحب الناس أن يكتبوا المسؤوليات على الأوراق ويلصقونها في ظهور بعضهم البعض، لكن الصراصير تهرب فقط، تختبئ ثم إذا اكتشفت تفر، أترى خجل كافكا من جعل شخصيته رمزا للسكينة والفرار؟ ذلك القلق الوجودي الهائل، قلق الحضارة، صورة الذات المنعزلة، لم يكن من الممكن أن يعبر عنها في صورة كلب وفي ودود، المجتمع مليء بالكلاب الودودة، التي يمكن أن تفعل حتى الأشياء التي لم تطلب منها، لكن الصرصار يفر فقط، إنه حشرة قلقة وجودية لعينة فهمت كل شيء تقريبا.
حين اشتد شعاع الشمس الذي تسلل بين الغيم، تأكدت من أنه ليس سوى صرصار وحيد، لم يهاجم ولم يتودد، ولم يفعل أي شيء، ظل يحرك شاربيه الطويلين مثل جندي من الانكشارية، لقد كان مثلي وحيدا، تأكدت على الأقل أن اسمه ليس غريغور، حين سألته إن كان اسمه غريغور هز رأسه بالنفي، تمكنت من تنحية نظرية أن يكون إنسانا متحولا. لكن بالرغم من ذلك بدا حزينا ومنعزلا، وقال لي قبل أن ينصرف: لماذا لم تطرح السؤال بصيغة معاكسة؟. لعل جزءا كبيرا من البشر تحول بشكل معاكس، من صرصار إلى إنسان. « التحول: الجزء الثاني »، الجزء الذي لم يكتبه كافكا، وهو حين تحول القليل من البشر، المختارين جينيا ليكونوا هاربين، إلى صراصير.
هناك قطعا حكمة في خلق الله للصراصير، حكمة أبلغ من إعمار المجاري المائية السفلية والتسبيح باسمه عبر تحريك الشاربين المرهفين، وهي قطعا حكمة العبث المطلق، حيث لا شيء يكون لسبب، الصرصار هو التعبير المطلق والنهائي على أن الأمر بجله لا يعدو أن يكون مجرد مهزلة مضحكة، وإلا فما الحكمة من وجود حشرة مرهفة الإحساس مكروهة من جميع الحشرات الأخرى؟
Publié dans تأملات | Pas de Commentaire »